دواء هذا الداء القتال أن يعرف إنما إبتلى به من الداء المضاد للتوحيد أولا ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بم يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه ويكثر اللجاء والتضرع الى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يرجع بقلبه إليه وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين وأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما تمكن من قلب فارغ كما قال أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى * فصادف قلبا خاليا فتمكنا وليعلم العاقل أن العقل والشرع قد يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها وإعدام المفاسد وتقليلها فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه المصلحة والمفسدة وجب عليه أمران أمر علمي وأمر عملي فالعلمي طلب معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إتيان الأصلح له ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة وذلك من وجوه أحدها الإشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه ويكون السلطان والغلبة له الثاني عذاب قلبه بمعشوقه فإن من أحب شيئا غير الله عذب به ولا بد كما قيل فما في الأرض أشقى من محب * وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكيا في كل حين * مخافة فرقة أو لإشتياق فيبكي إن ناؤا شوقا إليهم * ويبكي إن دنو خوف الفراق فتسخن عينه عند الفراق * وتسخن عينه عند التلاق والعشق وإن استلذ به صاحبه فهو من أعظم عذاب القلب الثالث أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه فقلبه كالعصفورة في كف الطفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق ويعيش الخلي عيش المسيب المطلق والعاشق كما قيل طليق برأي العين وهو أسير * عليل على قطب الهلاك يدور وميت يرى في صورة الحي غاديا * وليس له حتى النشور نشور أخو غمرات ضاع فيهن قلبه * فليس له حتى الممات حضور الرابع أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور أما مصالح الدين فإنها منوطة بلم شعث القلب وإقباله على الله وعشق الصور أعظم شيئا تشعيثا وتشتيتا له وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه فمصالح دنياه أضيع وأضيع الخامس أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب وسبب ذلك إن القلب كلما قرب من العشق قوى اتصاله به بعد من الله فأبعد القلوب من الله قلوب عشاق الصور وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية فإن الشيطان يتولاه من تولاه عدوه واستولى عليه لم يأله وبالا ولم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله فما الظن من قلب تمكن منه عدوه وأحرص الخلق على عيبه وفساده وبعده من وليه ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقربه ولا ولايته السادس أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوى سلطانه أفسد الذهن وأحدث الوساوس وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون به وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها بل بعضها يشاهد بالعيان وأشرف ما في الإنسان عقله وبه يتميز عن سائر راجعا فإذا عدم عقله التحق بالبهائم بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضرابه إلا العشق وربما زاد جنونه على جنون غيره كما قيل قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم * العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه * وإنما يصرع المجنون بالحين السابع أنه ربما أفسد الحواس أو نقصها إما فسادا معنويا أو صوريا أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فيرى القبيح حسنا منه ومن معشوقه كما في المسند مرفوعا حبك الشيء يعمي ويصم فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوي المحبوب وعيوبه فلا ترى العين ذلك ويصم أذنه عن الإصغاء الى العذل فيه فلا تسمع الأذن ذلك والرغبات تستر العيوب فإن الراغب في شيء لا يرى عيوبه حتى إذ زالت رغبته فيه أبصر عيوبه فشدت الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو عليه كما قيل هويتك إذ عينى عليها غشاوة * فلما انجلت قطعت نفسي ألومها والداخل في الشيء لا يرى عيوبه والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الاسلام بعد الكفر خير من الذين ولدوا في الاسلام قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما ينتقض عرى الاسلام عروة عروة إذا ولد في الاسلام من لا يعرف الجاهلية وأما فساده للحواس ظاهرا فإنه يمرض البدن وينهكه وربما أدى الى تلفه كما هو المعروف في أخبار من قتله العشق وقد رفع الى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد انتحل حتى عاد جلدا على عظم فقال ما شأن كما تقدم هو الإفراط في المحبة المجاشعي يستولي المعشوق على القلب من العاشق حتى لا ولو من تخيله وذكره والفكر فيه المجاشعي لا يغيب عن خاطره وذهنه فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القوى فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يضر دواؤه ويتعذر أفعاله وصفاته ومقاصده ويختل جميع ذلك فتعجز البشر عن صلاحه كما قيل الحب أول ما يكون لجاجة * يأتى بها وتسوقه الأقدار حتى إذا خاض الفتى لجج الهوي * جاءت أمور لا تطاق كبار والعشق مباديه سهلة حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وسقم وآخره عطب وقتل إن لم يتداركه عناية من الله كما قيل وعش خاليا فالحب أوله عنا * وأوسطه سقم وقال آخر * تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق * رأى لجة ظنها موجة * فلما تمكن منها غرق والذنب له فهو الجاني على نفسه وقد قعد تحت المثل السائر يداك أو كياوفوك نفخ
فصل
والعاشق له ثلاث مقامات مقام ابتداء ومقام توسط ومقام انتهاء فأما مقام ابتدائه فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول الى معشوقه متعذرا قدرا وشرعا فإن عجز عن ذلك وأبى قلبه إلا السفر الى محبوبه وهذا مقام التوسط والإنتهاء فعليه كتمانه ذلك وأن لا يفشيه الى الخلق ولا يشمت بمحبوبه ولا يهتكه بين الناس فيجمع بين الظلم والشرك فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم وربما كان أعظم ضررا على المعشوق وأهله من ظلمه فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه الى وقوع الناس فيه وانقسامهم الى مصدق ومكذب وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة وإذا قيل فلان فعل بفلان أو بفلانه كذبه واحد وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعين وخبر العاشق للهتك عن المتهتك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع اليقين بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه كذبا وافتراء على غيره جزموا بصدقة جزما لا يحتمل النفيض بل لو جمعهما مكانا واحدا إتفاقا جزموا أن ذلك عن وعد وإتفاق بينهما وجزمهم في هذا الباب على الظنون والتخييل والشبهة والأوهام والأخبار الكاذبة كجزمهم بالحسيات المشاهدة وبذلك وقع أهل لإفك في الطيبة المطيبة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من فوق سبع سموات بشبهة مجيء صفوان بن المعطل بها وحده خلف العسكر حتى هلك من هلك ولولا أن تولى الله سبحانه براءتها والذب عنها وتكذيب قاذفها لكان أمرا آخر والمقصودان في إظهار المبتلى عشق من لا يحل له الإتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه فإن استعان عليه ممن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم وانتشر وصار ذلك الواسطة بين الراشي والمرتشي وصار ذلك الواسطة ظالم وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الرائش وهو الواسطة ديوثا ظالما بين الراشي أو المرتشي لإيصال الرشوة فما الظن بالديوث الواسطة بين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرمة فيتساعد العاشق على ظلم المعشوق وغيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس ومال أو عرض فإن كثيرا ما يتوقف حصول المطلوب غرضه نفس يكون حياتها مانعة من غرضه وكم قتيل طل دمه بهذا السبب من زوج وسيد قريب وكم خبثت امرأة على بعلها وجارية وعبد على سيدهما وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك وتبرأ منه وهو من أكبر الكبائر وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته وأمته حتى يتصل بهما وعشاق الصور ومساعدوهم من الديثة لا يرون ذلك ذنبا فإن في طلب العاشق وصل معشوقه ومشاركة الزوج والسيد ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يربو عليها ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة فإن التوبة وإن أسقطت حق الله فحق العبد باق له المطالبة به يوم القيامة فإن من ظلم الوالد بإفساد ولده وفلذة كبده ومن هو أعز عليه من نفسه وظلم الزوج بإفساد حبيبته والجناية على فراشه أعظم من ظلمه كله ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه ولا يعدل ذلك عنده إلا سفك دمه فيا له من ظلم أعظم إثما من فعل الفاحشة فإن كل ذلك حقا لغاز في سبيل الله وقف له الجاني الفاعل يوم القيامة وقيل له خذ من حسناته ما شئت كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال صلى الله عليه وسلم فما ظنكم أي فما تظنون تبقى له من حسناته فإن إنضاف الي ذلك أن يكون المظلوم جارا أو ذا رحم محرم تعدد الظلم وصار ظلما مؤكدا لقطيعة الرحم وأذي الجار ولا يدخل الجنة قاطع رحم ولا من لا يأمن جاره بوائقه فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين علمني إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم الى الشرك والظلم كفر السحر فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدي لا يخفى فإنه إذا حصل له مقصوده من المعشوق فللمعشوق أمور أخر يريد من العاشق إعانته عليها فلا يجد من إعانته بدا فيبقى كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان فالمعشوق يعين العاشق على ظلم من اتصل به من أهله وأقاربه وسيده وزوجه والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقفا على ظلمه فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس فيحصل العدوان والظلم للناس بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم وكما جرت به العادة بين العشاق والمعشوقين من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وعدوان وبغي حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله في تحصيل مال من غير حله وفي استطالته على غيره فإذا اختصم معشوقه وغيره أو تشاكيا لم يكن إلا في جانب المعشوق ظالما كان أو مظلوما هذا الى ما ينضم الى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحيل على أخذ أموالهم والتوصل بهما الى معشوقه بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك وربما أدى ذلك النفس التي حرم الله ليتوصل به الى معشوقه فكل هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور وربما حمله على الكفر الصريح وقد ننصر جماعة ممن نشأ في الإسلام بسبب العشق كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر وهو على سطح مسجد امرأة جميلة ففتن بها فنزل ودخل عليها وسألها نفسها فقالت هي نصرانية فإن دخلت في ديني تزوجت بك ففعل فرقي في ذلك اليوم على درجة عندهم فسقط منها فمات ذكر هذا عبد الحق في كتاب العاقبة له وإذا أراد النصارى أن ينصروا الأسير أروه امرأة جميلة وأمروها أن تطمعه في نفسها حثى إذا تمكن حبها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها فهنالك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه لمعاونته له على الفاحشة وظلمه لنفسه فكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه وظلمهما متعد الى الغير كما تقدم وأعظم من ذلك ظلمهما بالشرك فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها والمعشوق إذا ! لم يتق الله فإنه يعرض العاشق للتلف وذلك ظلم منه بأن يطمعه في نفسه ويتزين له ويستميله بكل طريق حتى يستخرج ونفعه ولا يمكنه من نفسه لئلا يزول غرضه بقضاء وطره منه فهو يسومه سوء العذاب والعاشق معشوقه ليشفي نفسه منه ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره وكم للعشق من قتيل من الجانبين وكم قد زال من نعمة وأفقر من غني وأسقط من مرتبة وشتت من شمل وكم أفسد من أهل للرجل وولد فإن المرأة إذا رأت بعلها عاشقا لغيرها اتخذت هي معشوقا لنفسها فيصير الرجل مترددا بين خراب بيته بالطلاق وبين القيادة فمن الناس من يؤثر هذا ومنهم من يؤثر هذا فعلى العاقل أن يحكم على نفسه سد عشق الصور لئلا يؤذيه ويؤديه ذلك الى الهلاك يبك هذه المفاسد وأكثرها أو بعضها فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه والمغرر بها فإذا هلكت فهو الذي أهلكها فلولا تكراره النظر الى وجه معشوقه وطمعه في وصاله لم يتمكن عشقه من قلبه فإن أول أسباب العشق الإستحسان سواء تولد عن نظر أو سماع فإن لم يقارنه طمع في الوصال وقارنه الأياس من ذلك لم يحدث له العشق فإن إقترن به الطمع فصرفه عن فكره ولم يشغل قلبه به لم يحدث له ذلك فإن أطاع مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصاله إما خوف ديني كخوف النار وغضب الجبار واجتناب الأوزار وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر لم يحدث له العشق فإن فاته هذا الخوف وقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه وماله وذهاب جاهه وسقوط مرتبته عند الناس وسقوطه من عين من يعز عليه وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له من ذلك المعشوق وقدم محبته على محبة المعشوق إندفع عنه العشق فانتفاه ذلك كله أو غلبت محبة المعشوق لذلك إنجذب إليه القلب بالكلية ومالت إليه النفس كل الميل فإن قيل قد ذكرتم آفات العشق ومضاره ومفاسده فهلا ذكرتم منافعه وفوائده التي من جملتها رقة الطبع وترويح النفس وخفتها وزوال تلفها ورياضتها وحملها على مكارم الأخلاق من الشجاعة والكرم والمروءة ورقة الحاشية ولطف الجانب وقد قيل ليحيى بن معاذ الرازي إن إبنك قد عشق فلانة فقال الحمد لله الذي صيره الى الطبع الآدمي وقال بعضهم العشق داء أفئدة الكرام وقال غيره العشق لا يصلح إلا لذي مروءة طاهرة وخليقة ظاهرة أو لذي لسان فاضل وإحسان كامل أو لذي أدب بارع وحسب ناصع وقال آخر العشق حنان الجبان ويصفي ذهن الغبي ويسخي كف البخيل ويذل عزة الملوك ويسكن نوافر الأخلاق وهو أنيس من لا أنيس له وجليس من لا جليس له وقال آخر العشق يزيل الأثقال ويلطف الروح ويصفي كدر القلب ويوجب الإرتياح لأفعال الكرام كما قيل سيهلك في الدنيا شفيق عليكم * إذا غاله من حادث الحب غائله كريم يميت السر حتى كأنه * إذا استفهموه عن حديثك جاهله يود بأن يمسي سقيما لعلها * إذا سمعت عنه بشكوى تراسله ويهتز للمعروف في طلب العلى * لتحمد يوما عند ليلى شمائله
فالعشق يحمل على مكارم الأخلاق وقال بعض الحكماء العشق يروض النفس ويهذب الأخلاق إظهاره طبعي وإضماره تكلفي وقال الآخر من لم تبتهج نفسه بالصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج يحتاج الى علاج وأنشد في ذلك المعنى لم تعشق ولم تدر ما الهوى * فما لك في طيب الحياة نصيب وقال الآخر * لم تعشق ولم تدر ما الهوى فقم واعتلف تبنا فأنت حمار *
وقال الآخر لم تعشق ولم تدرى ما الهوى * فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا وقال بعد العشاق أولي العفة والصيانة إذ عفوا تشرفوا وإذا عشقوا تظرفوا وقيل لبعض العشاق ما كنت تصنع بمن تهوى به فقال كنت أمتع طرفي بوجهه وأروح قلبي بذكره وحديثه واستر منه مالا أحب كشفه ولا أصير بقبح الفعل الى ما ينقض عهده ثم أنشد أخلو به فأعف عنه تكرما * خوف الديانة لست من عشاقه كالماء في يد صائم يلتذ به * ظمأ فيصبر عن لذيذ مذاقه
وقال أبو اسحق بن ابراهيم أرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم رقيقة خفيفة نزهتهم الموانسة وكلامهم يحيي موات القلوب ويزيد في العقول ولولا العشق والهوى لبطل نعيم الدنيا وقال آخر العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان أن تركته ضرك وإن أكثرت منه قتلك وفي ذلك قيل خليلي إن الحب فيه لذاذة * وفيه شقاء دائم وكروب على ذاك ما عيش يطيب بغيره * ولا عيش إلا بالحبيب يطيب ولا خير في الدنيا بغير صبابة * ولا في نعيم ليس فيه حبيب وذكر الخرائطي عن أبي غسان قال مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجارية وهي تقول وهويته من قبل قطع تمائمي * متمايلا مثل القضيب الناعم
فسألها أم مملوكة قالت بل مملوكة فقال تهوين فتلكأت فأقسم عليها فقالت وأنا التي لعب الهوى بفؤادها * قتلت بحب محمد بن القاسم
فاشتراها من مولاها وبعث بها الى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب فقال هؤلاء والله فتن الرجال وكم والله قد مات بهن كريم وعطب بهن سليم وجاءت جارية عثمان بن عفان رضي الله عنه تستدعي على رجل من الأنصار قال لها عثمان ما قصتك قالت كلفت يا أمير المؤمنين بإبن أخيه فما انفك أداعبه فقال له عثمان إما أن تهبها الى إبن أخيك أو أعطيك ثمنها من مالي فقال أشهدك يا أمير المؤمنين إنها له ونحن لا ننكر فساد العشق الذي يتعلق به فعل الفاحشة بالمعشوق وإنما الكلام في العشق العفيف من الرجل الظريف الذي يأبى له إيمانه ودينه وعفته ومروءته أن يفسد مابينه وبين الله وما بينه وبين معشوقة بالحرام وهذا عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام فهذا عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة عشق حتى اشتهر أمره عليه وعد ظالما من لامه ومن شعره كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم * ولامك أقوام ولومهم ظلم فنم عليك الكاشحون وقبلهم * عليك الهوى قد نم ما ينفع الكتم فأصبحت كالنمري إذ مات حسرة * على أثر هندا وكمن شفه سقم تجنبت إتيان الحبيب تأثما * إلا أن هجران الحبيب هو الإثم فذق هجرها قد كنت تزعم أنه * رشاد ألاياء ربما كذب الزعم
وهذا عمر بن عبد العزيز وعشقه لجارية فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وإمرأته مشهورة وكانت جارية بارعة الجمال وكان معجبا بها وكان يطلبها من إمرأته ويحرص على أن تههاله فتأبى ولم تزل الجارية في نفس عمر فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فاصلحت وكانت مثلا في حسنها وجمالها ثم دخلت على عمر وقالت يا أمير المؤمنين إنك كنت معجبا بجاريتي فلانة فسألتنيها أن أهبها لك فأبيت عليك والآن فقد طابت نفسي لك بها فلما قالت له ذلك استبان الفرح في وجهه وقال عجلي فلما دخلت بها عليه ازداد به عجبا وقال لها ألقي ثيابك ففعلت ثم قال لها على رسلك أخبريني لمن كنت ومن أين صرت لفاطمة فقالت أغرم الحجاج عاملا له بالكوفة مالا وكنت في رفيقة ذلك قالت فأخذني وبعث بي الى عبد الملك فوهبني لفاطمة قال وما فعل ذلك العامل قالت هلك قال وهل ترك ولدا قالت نعم قال فما حالهم قالت سيئة قال شدي عليك ثيابك واذهبي الى مكانك ثم كتب الى عامله على العراق أن إبعث الي فلان بن فلان على البريد فلما قدم قال له ارفع الي جميع ما أغرمه الحجاج لأبيك فلم يرفع إليه شيئا إلا دفعه إليه ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ثم قال له إياك وإياها فلعل أباك قد وقع بها فقال الغلام هي لك يا أمير المؤمنين قال لا حاجة لي بها قال فابتعها مني قال لست إذا ممن نهى نفسه عن الهوى فلما عزم الفتى على الإنصراف قالت أين وجدك بي يا أمير المؤمنين قال على حاله ولقد زادني ولم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات رحمه الله وهذا أبو بكر بن محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب وله قول في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور قال نفطويه دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف نجدك قال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت وما يمنعك من الإستمتاع به مع القدرة عليه فقال الإستمتاع على وجهين أحدهما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق