دواء العشق
ودواء هذا الداء القتال : أن يعرف أن ما ابتلي به من هذا الداء المضاد للتوحيد ، إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن الله تعالى ، فعليه أن يعرف توحيد ربه وسنته أولا ، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه ، ويكثر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه ، وأن يراجع بقلبه إليه ، وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله ، وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ سورة يوسف : 24 ] .
وأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه ، فإن القلب إذا أخلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما يتمكن من قلب فارغ ، كما قال :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وليعلم العاقل أن العقل والشرع يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها ، وإعدام المفاسد وتقليلها ، فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحة ومفسدة ، وجب عليه أمران : أمر علمي ، وأمر عملي ، فالعلمي : معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة ، فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إيثار الأصلح له .
[ ص: 213 ]
أضرار العشق
ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية ، بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة ، وذلك من وجوه :
أحدها : الاشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب تعالى وذكره ، فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما الآخر ، ويكون السلطان والغلبة له .
الثاني : عذاب قلبه به ، فإن من أحب شيئا غير الله عذب به ولا بد ، كما قيل :
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حين مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند الفراق وتسخن عينه عند التلاقي
والعشق وإن استلذ به صاحبه ، فهو أعظم من عذاب القلب .
الثالث : أن قلبه أسير قبضة غيره يسومه الهوان ، ولكن لسكرته لا يشعر بمصابه ، فقلبه كعصفورة في كف طفل يسومها حياض الردى ، والطفل يلهو ويلعب ، كما قال بعض هؤلاء :
ملكت فؤادي بالقطيعة والجفا وأنت خلي البال تلهو وتلعب
فعيش العاشق عيش الأسير الموثق ، وعيش الخلي عيش المسيب المطلق .
طليق برأي العين وهو أسير عليل على قطب الهلاك يدور
وميت يرى في صورة الحي غاديا وليس له حتى النشور نشور
أخو غمرات ضاع فيهن قلبه فليس له حتى الممات حضور
الرابع : أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه ، فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور ، أما مصالح الدين فإنها منوطة بلم شعث القلب وإقباله على الله ، وعشق الصور أعظم شيء تشعيثا وتشتيتا له .
وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين ، فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه ، فمصالح دنياه أضيع وأضيع .
الخامس : أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب ، وسبب ذلك : أن القلب كلما قرب من العشق وقوي اتصاله به بعد من الله ، فأبعد [ ص: 214 ] القلوب من الله قلوب عشاق الصور ، وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات ، وتولاه الشيطان من كل ناحية ، واستولى عليه لم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله ، فما الظن بقلب تمكن منه عدوه وأحرص الخلق على غيه وفساده ، وبعد منه وليه ، ومن لا سعادة له ولا فرح ولا سرور إلا بقربه وولايته ؟
السادس : أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوي سلطانه ، أفسد الذهن ، وأحدث الوسواس ، وربما ألحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها .
وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها ، بل بعضها مشاهد بالعيان ، وأشرف ما في الإنسان عقله ، وبه يتميز عن سائر الحيوانات ، فإذا عدم عقله التحق بالحيوان البهيم ، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله ، وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضرابه إلا ذلك ؟ وربما زاد جنونه على جنون غيره كما قيل :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
السابع : أنه ربما أفسد الحواس أو بعضها ، إما إفسادا معنويا أو صوريا ، أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب ، فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان ، فيرى القبيح حسنا منه ومن معشوقه كما في المسند مرفوعا : حبك الشيء يعمي ويصم فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوئ المحبوب وعيوبه ، فلا ترى العين ذلك ، ويصم أذنه عن الإصغاء إلى العدل فيه ، فلا تسمع الأذن ذلك ، والرغبات تستر العيوب ، فالراغب في الشيء لا يرى عيوبه ، حتى إذ زالت رغبته فيه أبصر عيوبه ، فشدة الرغبة غشاوة على العين ، تمنع من رؤية الشيء على ما هو به ، كما قيل :
هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
والداخل في الشيء لا يرى عيوبه ، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه ، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ، ثم خرج منه ، ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيرا من الذين ولدوا في الإسلام .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إنما تنتقض عرى الإسلام عروة عروة ، إذا ولد في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
وأما فساد الحواس ظاهرا ، فإنه يمرض البدن وينهكه ، وربما أدى إلى تلفه ، كما هو المعروف في أخبار من قتلهم العشق .
[ ص: 215 ] وقد رفع إلى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد انتحل حتى عاد جلدا على عظم ، فقال : ما شأن هذا ؟ قالوا : به العشق ، فجعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق عامة يومه .
الثامن : أن العشق كما تقدم هو الإفراط في المحبة ، بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق ، حتى لا يخلو من تخيله وذكره والفكر فيه ، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه ، فعند ذلك تشتغل النفس عن استخدام القوة الحيوانية والنفسانية فتتعطل تلك القوة ، فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يعز دواؤه ويتعذر ، فتتغير أفعاله وصفاته ومقاصده ، ويختل جميع ذلك ، فتعجز البشر عن صلاحه ، كما قيل :
الحب أول ما يكون لجاجة يأتي بها وتسوقه الأقدار
حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى جاءت أمور لا تطاق كبار
والعشق مباديه سهلة حلوة ، وأوسطه هم وشغل قلب وسقم ، وآخره عطب وقتل ، إن لم تتداركه عناية من الله تعالى ، كما قيل :
وعش خاليا فالحب أوله عنا وأوسطه سقم وآخره قتل
وقال آخر :
تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق
والذنب له ، فهو الجاني على نفسه ، وقد قعد تحت المثل السائر : " يداك أوكتا ، وفوك نفخ " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق