الخميس، 29 ديسمبر 2011

لجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي



الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي




وفي ذلك فساد أمر السموات والارض ومن فيهما كما هو المعهود من فساد البلد اذا كان فيها ملكان متكافئان وفسد الزوجة اذا كان لها بعلان والشول اذا كان فيه فحلان واصل فساد العالم انما هو من فساد اختلاف الملوك والخلفاء ولهذ لم تطمع أعداء الاسلام فيهم في زمن من الازمنة الا في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم وانفراد كل واحد منهم ببلاد وطلب بعضهم العلو على بعض فصلاح السموات والارض واستقامتهما وإنتظام أمر المخلوقات على أتم نظام ومن أظهر الادلة على انه لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وان كل معبود من لدن عرشه الى قرار أرضه باطل إلا وجهه الأعلى قال الله تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله اذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحانه الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون وقال تعالى أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وقال تعالى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا قيل المعني لابتغوا السبيل اليه بالمغالبة والقهر كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ويدل عليه قوله في الاية الاخري ولعلى بعضهم على بعض قال شيخنا والصحيح ان المعنى لابتغوا اليه سبيلا بالتقرب اليه وطاعته فكيف تعبدونهم من دونه وهم لو كانوا آلهة كما يقولون لكانوا عبيدا له قال ويدل على هذا وجوه منها قوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه أي هؤلاء الذين يعبدونهم من دوني هم عبادي كما أنتم عبادي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تعبدونهم من دوني الثاني انه سبحانه لم يقل لابتغوا عليه سبيلا قال لابتغوا اليه سبيلا وهذا اللفظ إنما يستعمل في القرب كقوله تعالى اتقوا الله وابتغوا الوسيلة وأما في المغالبة فانما يستعمل بعلى كقوله فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا الثالث إنهم لم يقولوا إن آلهتهم تغالبه وتطلب العلو عليه وهو سبحانه قال قل لو كان معه الهة كما يقولون وهم انما كانوا يقولون ان آلهتهم تبتغي التقرب اليه وتقربهم زلفى اليه قال تعالى لو كان الامر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدا له فلماذا تعبدون عبيده من دونه


فصل

والمحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام سواء كانت محمودة أو مذمومة نافعة أو ضارة من الوجه والذوق والحلاوة والشوق والانس والاتصال بالمحبوب والقرب منه والانفصال عنه والبعد منه والصد والهجران والفرح والسرور والبكا والحزن وغير ذلك من أحكامها ولوازمها والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وآخرته وهذه المحبة هي عنوان السعادة وضدها هي التي تجلب لصاحبها ما يضره في دنياه وآخرته وهي عنوان الشقاوة ومعلوم ان الحى العاقل لا يختار محبة ما يضره ويشقيه وإنما يصدر ذلك عن جهله وظلمه فان النفس قد تهوي ما يضرها ولا ينفعها وذلك ظلم من الانسان لنفسه اما ان تكون النفس جاهلة بحال محبوبها بان تهوي الشيء وتحبه غير عالمة بما في محبته من المضرة وهذا حال من اتبع هواه بغير علم واما عالمة بما في محبته من الضرر لكن يؤثر هواها على علمها وقد تتركب محبتها من أمرين من إعتقاد فاسد وهوي مذموم وهذا حال من اتبع الظن وما تهوي الانفس فلا تقع المحبة الفاسدة الا من جهل أو اعتقاد فاسد وهو غالب أو ما تركب من ذلك فاعان بعضه بعضا فتنفق شبهة يشتبه بها الحق بالباطل يزين له أمر المحبوب وشهوة تدعوه الى وصوله فيتساعد جيش الشبهة والشهوة على جيش العقل والايمان والغلبة لاقواهما اذا عرف هذا فتوابع كل نوع من أنواع المحبة له حكم متبوعه فالمحبة النافعة المحمودة التي هي عنوان سعادة العبد وتوابعها كله نافعة له حكمها حكم متبوعها فان بكي نفعه وإن حزن نفعه وإن فرح نفعه وإن انبسط نفعه وإن انقبض نفعه فهو يتقلب في منازل المحبة وأحكامها في مزيد وربح وقوة والمحبة والمضرة المذمومة توابعها وآثارها كلها ضارة لصاحبها مبعدة له من ربه كيف ما تقلب في آثارها ونزل في منازلها فهو في خسارة وبعد وهذا شأن كل فعل تولد عن طاعة ومعصية فكل ما تولد من الطاعه فهو زيادة لصاحبه وقرب وكل ما تولد من المعصية فهو خسران لصاحبه وبعد قال تعالى ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون فأخبر الله سبحانه في الاية الاولى أن المتولد عن طاعتهم وأفعالهم يكتب لهم به عمل صالح وأخبر في الثانية أن أعمالهم الصالحة التي باشروها تكتب لهم أنفسها والفرق بينهما ان الاول ليس من فعلهم وإنما تولد عنه فكتب لهم به عمل صالح والثاني نفس أفعالهم فكتب لهم فليتأمل قتيل المحبة هذا الفصل حق التأمل ليعلم ما له وما عليه

سيعلم يوم العرض أي بضاعة ... أضاع وعند الوزن ما كان حصلا


فصل

وكما ان المحبة والارادة أصل كل فعل كما تقدم فهى أصل كل دين سواء كان حقا أم باطلا فان الدين من الاعمال الباطنة والظاهرة والمحبة والارادة أصل ذلك كله والدين هو الطاعة والعبادة والخلق فهو الطاعة اللازمة الدائمة التي صارت خلقا وعادة ولهذا فسر الخلق بالذين في قوله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم قال الامام أحمد عن ابن عيينة قال ابن عباس لعلي دين عظيم وسئلت عائشة عن خلق النبي فقالت كان خلقه القرآن والدين فيه معنى الاذلال والقهر فيه معنى الذل والخضوع والطاعة فلذلك يكون من الاعلى الى الاسفل كما يقال دنته فدان أي قهرته فذل قال الشاعر

هو أدنى الزمان أذكر هذا الدين ... فاصبحوا بغرة وصيان

ويكون من الادنى الى الاعلى كما يقال دنت الله ودنت لله وفلان لا يدين الله دينا ولا يدين الله بدين فدان الله أي أطاع الله وأحبه وخافه ودان لله أي خشع له وخضع وذل وانقاد والدين الباطل لا بد فيه من الخضوع والحب كالعبادة سواء بخلاف الدين الظاهر فانه لا يستلزم الحب وإن كان فيه انقياد وذل في الظاهر وسمي الله تعالى يوم القيامة يوم الدين لانه اليوم الذي يدين فيه الناس فيه باعمالهم إن خير فخيرا وإن شرا فشر وذلك يتضمن جزاؤهم وحسابهم فلذلك فسروا بيوم الجزاء ويوم الحساب وقال تعالى فلولا إن كنتم غير مدينين يرجعونها إن كنتم صادقين أي هلا تردون الروح الى مكانها إن كنتم غير مدبوبين ولا مقهورين ولا مجزيين وهذه الآية تحتاج الى تفسير فانها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب ولا بد أن يكون الدليل مستلزم لمدلوله بحيث ينتقل الذهن منه الى المدلول لما بينهما من التلازم فيكون الملزوم دليل على لازمه ولا يجب العكس ووجه الاستدلال أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء فقد كفروا بربهم وأنكروا قدرته وربوبيته وحكمته فاما أن يقروا بان لهم ربا قاهرا متصرفا فيهم يميتهم إذا شاء ويحييهم إذا شاء ويأمرهم وينهاهم ويثيب محسنهم ويعاقب مسيئهم وأما أن لا يقروا برب هذا شأنه فان أقروا آمنوا بالبعث والنشور والدين الامري والجزائي وإن أنكروه وكفروا به فقد زعموا إنهم غير مربوبين ولا محكوم عليه ولا لهم رب يتصرف فيهم كما أراد فهلا يقدرون على دفع الموت عنهم اذا جاءهم وعلى رد الروح الى مستقرها إذا بلغت الحلقوم وهذا خطاب للحاضرين وهم عند المحتضر وهم يعاينون موته أي فهلا يردون الروح الى مكانها إن كان لهم قدرة وتصرف ولستم بمربوبين ولا مقهورين لقاهر قادر يمضي عليكم أحكامه وينفذ فيكم أوامره وهذه غاية التعجيز لهم إذا تبين عجزهم عن رد نفس واحدة الى مكانها ولو اجتمع على ذلك الثقلان فيالها من آية دالة على وحدانيته وربوبيته سبحانه وتصرفه في عباده ونفوذ أحكامه فيهم وجريانها عليهم والدين دينان دين شرعي أمري ودين حسابي جزائي وكلاهما لله وحده فالدين كله أمرا أو جزاء والمحبة أصل كل واحد من الدينين فان ما شرعه وأمر به يحبه وبرضاه وما نهى عنه فانه يكرهه ويبغضه لمنافاته لما يحبه ويرضاه فهو يحب ضده فعاد دينه الامري كله الى محبته ورضاه ودين العبد لله به إنما يقبل إذا كان عن محبة ورضي كما قال النبي ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا وهذا الدين قائم بالمحبة وبسببها شرع ولاجلها شرع عليها أسس وكذلك دينه الجزائي فانه يتضمن مجازات المحسن باحسانه والمسىء باساءته وكل من الامرين محبوب للرب فانهما عدله وفضله وكلاهما من صفات كماله وهو سبحانه يحب صفاته وأسمائه ويحب من يحبها وكل واحد من الدينين فهو صراطه المستقيم الذي هو عليه فهو سبحانه على صراط مستقيم في أمره ونهيه وثوابه وعقابه كما قال تعالى إخبارا عن نبيه هود عليه السلام إنه قال لقومه إني أشهد الله وأشهدوا إني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ولما علم نبي الله أن ربه على صراط مستقيم في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وقضائه وقدره ومنعه وعطائه وعافيته وبلائه وتوفيقه وخذلانه لا يخرج في ذلك عن موجب كماله المقدس الذي تقتضيه أسماؤه وصفاته من العدل والحكمة والرحمة والاحسان والفضل ووضع الثواب في مواضعه والعقوبه في موضعها اللائق بها ووضع التوفيق والخذلان والعطاء والمنع والهداية والاضلال كل ذلك في أماكنه ومحاله اللائقة به بحيث يستحق على ذلك كمال الحمد والثناء أوجب له ذلك العلم والعرفان إذ نادى على رؤس الملأ من قومه بجنان ثابت وقلب غير خائف بل متجرد لله إني أشهد الله واشهدوا إني بريء مما تشركون من دونه الآية ثم أخبر عن عموم قدرته وقهره بكل ما سواه وذل كل شيء لعظمته فقال ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فكيف أخاف من ناحيته بيد غيره وهو في قبضته وتحت قهره وسلطانه دونه وهل هذا الامر إلا من أجهل الجهل وأقبح الظلم ثم أخبر أنه سبحانه على صراط مستقيم فكل ما يقضيه ويقدره فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه فلا أخاف ما دونه فإن ناصيته بيده ولا أخاف جوره وظلمه فانه على صراط مستقيم وهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه له الملك وله الحمد لا يخرج في تصرفه في عباده عن العدل والفضل إن أعطي وأكرم وهدي ووفق فبفضله ورحمته وإن منع وأهان وأضل وخذل وشقي فبعدله وحكمته وهو على صراط مستقيم في هذا وهذا وفي الحديث الصحيح ما أصاب عبد قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسئلك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وحزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله فرجا مكانه وهذ يتناول حكم الرب الكوني والامري والقضاء الذي يكون باختيار العبد وبغير اختياره وكلا الحكمين ماض في عبده وكلا القضائين عدل فيه فهذا الحديث مشتق من هذه الآية بينهما أقرب نسب وبالله التوفيق


فصل

ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر فإنه يفسد القلب بالذات وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال وفسد ثغر التوحيد كما تقدم وسنقرره أيضا إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس وهم اللوطية والنساء فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه مع إن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك لوجوه أحدها ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله الى المرأة كما يميل العطشان الى الماء والجائع الى الطعام حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء وهذا لا يذم اذا صادف حلال بل يحمد كما في كتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يوسف بن عطية الصغار عن ثابت البناني عن أنس عن النبي حبب الي من دنياكم الطيب والنساء أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن الثاني أن يوسف عليه السلام كان شبا وشهوة الشباب وحدته أقوى الثالث أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة الرابع أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه وأهله ومعارفه الخامس أن المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث أن كل واحد من هذين الامرين يدعو الى موافقتها السادس أنها غير آبية ولا ممتنعة فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في لمرأة إباؤها وامتناعها لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها وكثير من الناس يزيده الأباء والإمتناع زيادة حب كما قال الشاعر

وزادني كلفا في الحب إن منعت ... أحب شيء الى الإنسان ما منعا

فطباع الناس مختلفة في ذلك فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها وتضمحل عند إبائها وإمتناعها وأخبرني بعض القضاة أن إرادته وشهوته تضمحل عند إمتناع زوجته أو سريته وإبائها بحيث لا يعاودها ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع ويشتد شوقه بكل ما منع وتحصل له من اللذة بالظفر نظير ما يحصل من لذة بالظفر بالضد بعد إمتناعه ونفاره واللذة بإدراك المسألة بعد إستصعابها وشدة الحرص على إدراكها السابع أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة اليها بل كانت هي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب إليه الثامن إنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث يخشى إن لم يطاوعها من اذا هاله فاجتمع داعي الرغبة والرهبة التاسع إنه لا يخشى أن تنمي عليه هي ولا أحد من جهتها فإنها هي الطالبة والرغبة وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء العاشر أنه كان مملوكا لها في الدار بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه وكان الأمن سابقا على الطلب وهو من أقوى الدواعي كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا قالت قرب الوساد وملول السواد تعني قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا الحادي عشر أنها استعانت عليه بأئمة المكر والإحتيال فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه فاستعان هو بالله عليهن فقال وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين الثاني عشر أنها تواعدته بالسجن والصغار وهذا أنواع إكراه إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار الثالث عشر أن الزوج لم يظهر منه الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما ويبعد كلا منهما عن صاحبه بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف أعرض عن هذا وللمرأة إستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع وهنا لم يظهر منه غيرة ومع هذه لدواعي كلها فآثر مرضات الله وخوفه وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا فقال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه وان ربه تعالى لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفقنا الله أن نفردها في مصنف مستقل


فصل

والطائفة الثانية الذين حكى الله عنهم العشق هم اللوطية كما قال تعالى وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا ألم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فهذه عشقة فحكاه سبحانه عن طائفتين عشق كل منهما ما حرم عليه من الصور ولم يبال بما في عشقه من الضرر وهذا داء أعي الأطباء دواؤه وعز عليهم شفاؤه وهو والله الداء العضال والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى إستنقاذه من إسارة ولا اشتعلت نار في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره وهو أقسام وهو تارة يكون كفر لمن إتخذ معشوقه ندا يحبه كما يحب الله فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه فهذا عشق لا يغفر لصاحبه فإنه من أعظم الشرك والله لا يغفر أن يشرك به وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك وعلامة هذا العشق الشركي الكفرى أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحقه وحق ربه وطاعته قدم حق معشوقه على حق ربه وآثر رضاه على رضاه وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه وبذل لربه إن بذل أردى ما عنده واستفرغ وسعه في مرضات معشوقه وطاعته والتقرب إليه وجعل لربه إن أطاعه الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته فتأمل حال أكثر عشاق الصور هل تحدها مطابقة لذلك ثم ضع حالهم في كفة وتوحيدهم في كفة وإيمانهم في كفة ثم زن وزنا يرضي الله ورسوله ويطابق العدل وربم صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه كما قال العاشق الخبيث

يترشفن من فمي رشفات ... هن أحلى فيه من التوحيد

وكما صرح الخبيث الآخر بأن وصل معشوقه أشهى إليه من رحمة ربه فعياذا بك اللهم من هذا الخذلان ومن هذا الحال قال الشاعر

وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل

ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله فصار عبدا مخلصا من كل وجه لمعشوقه فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبودية المخلوق مثله فإن العبودية أي كمال الحب والخضوع وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذله لمعشوقه فقد أعطاه حقيقة العبودية ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة فإن تلك ذنب كبير لفاعله حكمه حكم أمثاله ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك وكان بعض الشيوخ من العارفين يقول لئن أبتلى بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إلى من أن أبتلى فيها بعشق يتعبد لها قلبي ويشغله عن الله


فصل

ودواء هذا الداء القتال أن يعرف إنما إبتلى به من الداء المضاد للتوحيد أولا ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بم يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه ويكثر اللجاء والتضرع الى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يرجع بقلبه إليه وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين وأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما تمكن من قلب فارغ كما قال

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا

وليعلم العاقل أن العقل والشرع قد يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها وإعدام المفاسد وتقليلها فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه المصلحة والمفسدة وجب عليه أمران أمر علمي وأمر عملي فالعلمي طلب معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إتيان الأصلح له ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة وذلك من وجوه أحدها الإشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه ويكون السلطان والغلبة له الثاني عذاب قلبه بمعشوقه فإن من أحب شيئا غير الله عذب به ولا بد كما قيل

فما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكيا في كل حين ... مخافة فرقة أو لإشتياق

فيبكي إن ناؤا شوقا إليهم ... ويبكي إن دنو خوف الفراق

فتسخن عينه عند الفراق ... وتسخن عينه عند التلاق

والعشق وإن استلذ به صاحبه فهو من أعظم عذاب القلب الثالث أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه فقلبه كالعصفورة في كف الطفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق ويعيش الخلي عيش المسيب المطلق والعاشق كما قيل

طليق برأي العين وهو أسير ... عليل على قطب الهلاك يدور

وميت يرى في صورة الحي غاديا ... وليس له حتى النشور نشور

أخو غمرات ضاع فيهن قلبه ... فليس له حتى الممات حضور

الرابع أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور أما مصالح الدين فإنها منوطة بلم شعث القلب وإقباله على الله وعشق الصور أعظم شيئا تشعيثا وتشتيتا له وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه فمصالح دنياه أضيع وأضيع الخامس أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب وسبب ذلك إن القلب كلما قرب من العشق قوى اتصاله به بعد من الله فأبعد القلوب من الله قلوب عشاق الصور وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية فإن الشيطان يتولاه من تولاه عدوه واستولى عليه لم يأله وبالا ولم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله فما الظن من قلب تمكن منه عدوه وأحرص الخلق على عيبه وفساده وبعده من وليه ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقربه ولا ولايته السادس أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوى سلطانه أفسد الذهن وأحدث الوساوس وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون به وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها بل بعضها يشاهد بالعيان وأشرف ما في الإنسان عقله وبه يتميز عن سائر الحيوانات فإذا عدم عقله التحق بالبهائم بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضرابه إلا العشق وربما زاد جنونه على جنون غيره كما قيل

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون بالحين

السابع أنه ربما أفسد الحواس أو نقصها إما فسادا معنويا أو صوريا أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فيرى القبيح حسنا منه ومن معشوقه كما في المسند مرفوعا حبك الشيء يعمي ويصم فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوي المحبوب وعيوبه فلا ترى العين ذلك ويصم أذنه عن الإصغاء الى العذل فيه فلا تسمع الأذن ذلك والرغبات تستر العيوب فإن الراغب في شيء لا يرى عيوبه حتى إذ زالت رغبته فيه أبصر عيوبه فشدت الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو عليه كما قيل

هويتك إذ عينى عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

والداخل في الشيء لا يرى عيوبه والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الاسلام بعد الكفر خير من الذين ولدوا في الاسلام قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما ينتقض عرى الاسلام عروة عروة إذا ولد في الاسلام من لا يعرف الجاهلية وأما فساده للحواس ظاهرا فإنه يمرض البدن وينهكه وربما أدى الى تلفه كما هو المعروف في أخبار من قتله العشق وقد رفع الى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد انتحل حتى عاد جلدا على عظم فقال ما شأن كما تقدم هو الإفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق على القلب من العاشق حتى لا يخلو من تخيله وذكره والفكر فيه بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القوى فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يضر دواؤه ويتعذر أفعاله وصفاته ومقاصده ويختل جميع ذلك فتعجز البشر عن صلاحه كما قيل

الحب أول ما يكون لجاجة ... يأتى بها وتسوقه الأقدار

حتى إذا خاض الفتى لجج الهوي ... جاءت أمور لا تطاق كبار

والعشق مباديه سهلة حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وسقم وآخره عطب وقتل إن لم يتداركه عناية من الله كما قيل

وعش خاليا فالحب أوله عنا ... وأوسطه سقم وآخره قتل وقال آخر

تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق

رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق

والذنب له فهو الجاني على نفسه وقد قعد تحت المثل السائر يداك أو كتا وفوك نفخ




فصل

والعاشق له ثلاث مقامات مقام ابتداء ومقام توسط ومقام انتهاء فأما مقام ابتدائه فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول الى معشوقه متعذرا قدرا وشرعا فإن عجز عن ذلك وأبى قلبه إلا السفر الى محبوبه وهذا مقام التوسط والإنتهاء فعليه كتمانه ذلك وأن لا يفشيه الى الخلق ولا يشمت بمحبوبه ولا يهتكه بين الناس فيجمع بين الظلم والشرك فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم وربما كان أعظم ضررا على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه الى وقوع الناس فيه وانقسامهم الى مصدق ومكذب وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة وإذا قيل فلان فعل بفلان أو بفلانه كذبه واحد وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعين وخبر العاشق للهتك عن المتهتك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع اليقين بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه كذبا وافتراء على غيره جزموا بصدقة جزما لا يحتمل النفيض بل لو جمعهما مكانا واحدا إتفاقا جزموا أن ذلك عن وعد وإتفاق بينهما وجزمهم في هذا الباب على الظنون والتخييل والشبهة والأوهام والأخبار الكاذبة كجزمهم بالحسيات المشاهدة وبذلك وقع أهل لإفك في الطيبة المطيبة حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات بشبهة مجيء صفوان بن المعطل بها وحده خلف العسكر حتى هلك من هلك ولولا أن تولى الله سبحانه براءتها والذب عنها وتكذيب قاذفها لكان أمرا آخر والمقصودان في إظهار المبتلى عشق من لا يحل له الإتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه فإن استعان عليه ممن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم وانتشر وصار ذلك الواسطة بين الراشي والمرتشي وصار ذلك الواسطة ظالم وإذا كان النبي قد لعن الرائش وهو الواسطة ديوثا ظالما بين الراشي أو المرتشي لإيصال الرشوة فما الظن بالديوث الواسطة بين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرمة فيتساعد العاشق على ظلم المعشوق وغيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس ومال أو عرض فإن كثيرا ما يتوقف حصول المطلوب غرضه على قتل نفس يكون حياتها مانعة من غرضه وكم قتيل طل دمه بهذا السبب من زوج وسيد قريب وكم خبثت امرأة على بعلها وجارية وعبد على سيدهما وقد لعن رسول الله من فعل ذلك وتبرأ منه وهو من أكبر الكبائر وإذا كان النبي قد نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته وأمته حتى يتصل بهما وعشاق الصور ومساعدوهم من الديثة لا يرون ذلك ذنبا فإن في طلب العاشق وصل معشوقه ومشاركة الزوج والسيد ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يربو عليها ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة فإن التوبة وإن أسقطت حق الله فحق العبد باق له المطالبة به يوم القيامة فإن من ظلم الوالد بإفساد ولده وفلذة كبده ومن هو أعز عليه من نفسه وظلم الزوج بإفساد حبيبته والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه بأخذ ماله ولا يعدل ذلك عنده إلا سفك دمه فيا له من ظلم أعظم إثما من فعل الفاحشة فإن كل ذلك حقا لغاز في سبيل الله وقف له الجاني الفاعل يوم القيامة وقيل له خذ من حسناته ما شئت كما أخبر بذلك النبي ثم قال فما ظنكم أي فما تظنون تبقى له من حسناته فإن إنضاف الي ذلك أن يكون المظلوم جارا أو ذا رحم محرم تعدد الظلم وصار ظلما مؤكدا لقطيعة الرحم وأذي الجار ولا يدخل الجنة قاطع رحم ولا من لا يأمن جاره بوائقه فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم الى الشرك والظلم كفر السحر فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدي ضرره فأمر لا يخفى فإنه إذا حصل له مقصوده من المعشوق فللمعشوق أمور أخر يريد من العاشق إعانته عليها فلا يجد من إعانته بدا فيبقى كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان فالمعشوق يعين العاشق على ظلم من اتصل به من أهله وأقاربه وسيده وزوجه والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقفا على ظلمه فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس فيحصل العدوان والظلم للناس بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم وكما جرت به العادة بين العشاق والمعشوقين من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وعدوان وبغي حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله في تحصيل مال من غير حله وفي استطالته على غيره فإذا اختصم معشوقه وغيره أو تشاكيا لم يكن إلا في جانب المعشوق ظالما كان أو مظلوما هذا الى ما ينضم الى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحيل على أخذ أموالهم والتوصل بهما الى معشوقه بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك وربما أدى ذلك الى قتل النفس التي حرم الله ليأخذ ماله ليتوصل به الى معشوقه فكل هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور وربما حمله على الكفر الصريح وقد ننصر جماعة ممن نشأ في الإسلام بسبب العشق كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر وهو على سطح مسجد امرأة جميلة ففتن بها فنزل ودخل عليها وسألها نفسها فقالت هي نصرانية فإن دخلت في ديني تزوجت بك ففعل فرقي في ذلك اليوم على درجة عندهم فسقط منها فمات ذكر هذا عبد الحق في كتاب العاقبة له وإذا أراد النصارى أن ينصروا الأسير أروه امرأة جميلة وأمروها أن تطمعه في نفسها حثى إذا تمكن حبها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها فهنالك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه لمعاونته له على الفاحشة وظلمه لنفسه فكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه وظلمهما متعد الى الغير كما تقدم وأعظم من ذلك ظلمهما بالشرك فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها والمعشوق إذا ! لم يتق الله فإنه يعرض العاشق للتلف وذلك ظلم منه بأن يطمعه في نفسه ويتزين له ويستميله بكل طريق حتى يستخرج منه ماله ونفعه ولا يمكنه من نفسه لئلا يزول غرضه بقضاء وطره منه فهو يسومه سوء العذاب والعاشق ربما قتل معشوقه ليشفي نفسه منه ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره وكم للعشق من قتيل من الجانبين وكم قد زال من نعمة وأفقر من غني وأسقط من مرتبة وشتت من شمل وكم أفسد من أهل للرجل وولد فإن المرأة إذا رأت بعلها عاشقا لغيرها اتخذت هي معشوقا لنفسها فيصير الرجل مترددا بين خراب بيته بالطلاق وبين القيادة فمن الناس من يؤثر هذا ومنهم من يؤثر هذا فعلى العاقل أن يحكم على نفسه سد عشق الصور لئلا يؤذيه ويؤديه ذلك الى الهلاك والى هذه المفاسد وأكثرها أو بعضها فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه والمغرر بها فإذا هلكت فهو الذي أهلكها فلولا تكراره النظر الى وجه معشوقه وطمعه في وصاله لم يتمكن عشقه من قلبه فإن أول أسباب العشق الإستحسان سواء تولد عن نظر أو سماع فإن لم يقارنه طمع في الوصال وقارنه الأياس من ذلك لم يحدث له العشق فإن إقترن به الطمع فصرفه عن فكره ولم يشغل قلبه به لم يحدث له ذلك فإن أطاع مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصاله إما خوف ديني كخوف النار وغضب الجبار واجتناب الأوزار وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر لم يحدث له العشق فإن فاته هذا الخوف وقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه وماله وذهاب جاهه وسقوط مرتبته عند الناس وسقوطه من عين من يعز عليه وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له من ذلك المعشوق وقدم محبته على محبة المعشوق إندفع عنه العشق فانتفاه ذلك كله أو غلبت محبة المعشوق لذلك إنجذب إليه القلب بالكلية ومالت إليه النفس كل الميل فإن قيل قد ذكرتم آفات العشق ومضاره ومفاسده فهلا ذكرتم منافعه وفوائده التي من جملتها رقة الطبع وترويح النفس وخفتها وزوال تلفها ورياضتها وحملها على مكارم الأخلاق من الشجاعة والكرم والمروءة ورقة الحاشية ولطف الجانب وقد قيل ليحيى بن معاذ الرازي إن إبنك قد عشق فلانة فقال الحمد لله الذي صيره الى الطبع الآدمي وقال بعضهم العشق داء أفئدة الكرام وقال غيره العشق لا يصلح إلا لذي مروءة طاهرة وخليقة ظاهرة أو لذي لسان فاضل وإحسان كامل أو لذي أدب بارع وحسب ناصع وقال آخر العشق حنان الجبان ويصفي ذهن الغبي ويسخي كف البخيل ويذل عزة الملوك ويسكن نوافر الأخلاق وهو أنيس من لا أنيس له وجليس من لا جليس له وقال آخر العشق يزيل الأثقال ويلطف الروح ويصفي كدر القلب ويوجب الإرتياح لأفعال الكرام كما قيل

سيهلك في الدنيا شفيق عليكم ... إذا غاله من حادث الحب غائله

كريم يميت السر حتى كأنه ... إذا استفهموه عن حديثك جاهله

يود بأن يمسي سقيما لعلها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله

ويهتز للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله

فالعشق يحمل على مكارم الأخلاق وقال بعض الحكماء العشق يروض النفس ويهذب الأخلاق إظهاره طبعي وإضماره تكلفي وقال الآخر من لم تبتهج نفسه بالصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج يحتاج الى علاج وأنشد في ذلك المعنى

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فما لك في طيب الحياة نصيب

وقال الآخر

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فقم واعتلف تبنا فأنت حمار

وقال الآخر

اذا أنت لم تعشق ولم تدرى ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

وقال بعض العشاق أولي العفة والصيانة إذ عفوا تشرفوا وإذا عشقوا تظرفوا وقيل لبعض العشاق ما كنت تصنع بمن تهوى لو ظفرت به فقال كنت أمتع طرفي بوجهه وأروح قلبي بذكره وحديثه واستر منه مالا أحب كشفه ولا أصير بقبح الفعل الى ما ينقض عهده ثم أنشد

أخلو به فأعف عنه تكرما ... خوف الديانة لست من عشاقه

كالماء في يد صائم يلتذ به ... ظمأ فيصبر عن لذيذ مذاقه

وقال أبو اسحق بن ابراهيم أرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم رقيقة خفيفة نزهتهم الموانسة وكلامهم يحيي موات القلوب ويزيد في العقول ولولا العشق والهوى لبطل نعيم الدنيا وقال آخر العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان أن تركته ضرك وإن أكثرت منه قتلك وفي ذلك قيل

خليلي إن الحب فيه لذاذة ... وفيه شقاء دائم وكروب

على ذاك ما عيش يطيب بغيره ... ولا عيش إلا بالحبيب يطيب

ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب

وذكر الخرائطي عن أبي غسان قال مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجارية وهي تقول

وهويته من قبل قطع تمائمي ... متمايلا مثل القضيب الناعم

فسألها أحرة أنت أم مملوكة قالت بل مملوكة فقال تهوين فتلكأت فأقسم عليها فقالت

وأنا التي لعب الهوى بفؤادها ... قتلت بحب محمد بن القاسم

فاشتراها من مولاها وبعث بها الى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب فقال هؤلاء والله فتن الرجال وكم والله قد مات بهن كريم وعطب بهن سليم وجاءت جارية عثمان بن عفان رضي الله عنه تستدعي على رجل من الأنصار قال لها عثمان ما قصتك قالت كلفت يا أمير المؤمنين بإبن أخيه فما انفك أداعبه فقال له عثمان إما أن تهبها الى إبن أخيك أو أعطيك ثمنها من مالي فقال أشهدك يا أمير المؤمنين إنها له ونحن لا ننكر فساد العشق الذي يتعلق به فعل الفاحشة بالمعشوق وإنما الكلام في العشق العفيف من الرجل الظريف الذي يأبى له إيمانه ودينه وعفته ومروءته أن يفسد مابينه وبين الله وما بينه وبين معشوقة بالحرام وهذا عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام فهذا عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة عشق حتى اشتهر أمره ولم ينكر عليه وعد ظالما من لامه ومن شعره

كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم

فنم عليك الكاشحون وقبلهم ... عليك الهوى قد نم ما ينفع الكتم

فأصبحت كالنمري إذ مات حسرة ... على أثر هندا وكمن شفه سقم

تجنبت إتيان الحبيب تأثما ... إلا أن هجران الحبيب هو الإثم

فذق هجرها قد كنت تزعم أنه ... رشاد ألاياء ربما كذب الزعم

وهذا عمر بن عبد العزيز وعشقه لجارية فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وإمرأته مشهورة وكانت جارية بارعة الجمال وكان معجبا بها وكان يطلبها من إمرأته ويحرص على أن تههاله فتأبى ولم تزل الجارية في نفس عمر فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فاصلحت وكانت مثلا في حسنها وجمالها ثم دخلت على عمر وقالت يا أمير المؤمنين إنك كنت معجبا بجاريتي فلانة فسألتنيها أن أهبها لك فأبيت عليك والآن فقد طابت نفسي لك بها فلما قالت له ذلك استبان الفرح في وجهه وقال عجلي بها علي فلما دخلت بها عليه ازداد به عجبا وقال لها ألقي ثيابك ففعلت ثم قال لها على رسلك أخبريني لمن كنت ومن أين صرت لفاطمة فقالت أغرم الحجاج عاملا له بالكوفة مالا وكنت في رفيقة ذلك قالت فأخذني وبعث بي الى عبد الملك فوهبني لفاطمة قال وما فعل ذلك العامل قالت هلك قال وهل ترك ولدا قالت نعم قال فما حالهم قالت سيئة قال شدي عليك ثيابك واذهبي الى مكانك ثم كتب الى عامله على العراق أن إبعث الي فلان بن فلان على البريد فلما قدم قال له ارفع الي جميع ما أغرمه الحجاج لأبيك فلم يرفع إليه شيئا إلا دفعه إليه ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ثم قال له إياك وإياها فلعل أباك قد وقع بها فقال الغلام هي لك يا أمير المؤمنين قال لا حاجة لي بها قال فابتعها مني قال لست إذا ممن نهى نفسه عن الهوى فلما عزم الفتى على الإنصراف قالت أين وجدك بي يا أمير المؤمنين قال على حاله ولقد زادني ولم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات رحمه الله وهذا أبو بكر بن محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب وله قول في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور قال نفطويه دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف نجدك قال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت وما يمنعك من الإستمتاع به مع القدرة عليه فقال الإستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والآخر اللذة المحظورة فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى وأما اللذة المحظورة يمنعني منها ما حدثني أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة ثم أنشد

انظر الى السحر يجري من لواحظه ... وانظر الى دعج في طرفه الساج

وانظر الى شعرات فوق عارضه ... كأنهن نمال دب في عاج

ثم أنشد

ما لهم أنكروا سوادا بحديه ... ولا ينكرون ورد الغصون

إن يك عيب خده بدو لشعر ... فعيب العيون شعر الجفون

فقلت له نفيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر فقال غلبة الوجد وملكة الوجه النفس دعت إليه ثم مات من ليلته وبسبب معشوقه صنف كتاب الزهرة ومن كلامه فيه من ييأس بمن يهواه ولم يمت من وقته سلاه وذلك أن أول روعات الناس تأتي القلب وهو غير مستعد لها فأما الثانية تأتي القلب وقد وطأت لها الروعة والتقى هو وأبو العباس بن شريح في مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير فتناظرا في مسألة من الإيلاء قال له ابن شريح أنت بأن تقول من دامت لحظاته كثرت حسراته أحذق منك بالكلام على الفقه فقال الآن كان ذلك فإني أقول

أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما

وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا إختلاس وده لتكلما

رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فلست أرى ودا صحيحا مسلما

فقال له أبو العباس بن شريح بم تفخر علي ولو شئت لقلت

مطاعمه كالشهد في نغماته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته

بصبابه وبحسنه وحديثه ... وأنزه اللحظات عن وجناته

حتى إذا ما الصبح راح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته

فقال أبو بكر يحفظ عليه الوزير ما أقر به حتى يقيم شاهدين على أنه ولي بخاتم ربه وبراءته فقال ابن شريح يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك

أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما

فضحك الوزير فقال لقد جمعتما لطفا وظرفا ذكر ذلك أبو بكر الخطيب في تاريخه وجاءته يوما فتيا مضمونها


يا ابن داود يا فقيه العراق ... افتنا في فواتر الأحداق

هل عليها بما أتت من جناح ... أم حلال لها دم العشاق


فكتب تحت البيتين بخطه

عندي جواب سائل العشاق ... فاسمعه من قرح الحشا مشتاق

لما سئلت عن الهوى هيجتني ... وأرقت دمعا لم يكن مهراق

إن كان معشوقا يعذب عاشقا ... كان المعذب أنعم العشاق

قال صاحب كتاب منازل الأحباب شهاب الدين محمود بن سليمان بن مهدي صاحب كتاب الإنشاء وقلت في جواب البيتين على قافيتهما مجيبا للسائل

قل لمن جاء سائلا عن لحاظ ... هن يلعبن في دم العشاق

ما على السيف في العدا من جناح ... أن ثني الخد عن دم مهراق

وسيوف اللحاظ أولى بأن ... تصفح عما جنت على العشاق

إنما كل من قتل شهيد ... ولهذا يفني فنا وهو باق و


نظير ذلك فتوى وردت على الشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني شيخ الحنابلة في وقته رحمه الله

قل للإمام أبي الخطاب مسألة ... جاءت إليك وما أخال سواك لها

ماذا على رجل رام الصلاة فمذ ... لاحت مخاطرة ذات الجمال لها

فأجابه تحت سؤاله

قل للأديب الذي وافى بمسألة ... سرت فؤادي لما أن أصخت لها

إن الذي فتنته عن عبادة ربه ... فريدة ذات حسن فانثنى ولها

إن تاب ثم قضا عنه عبادة ربه ... فرحمة لله تغشى من عصى ولها


وقال عبد الله بن معمر القيسي حججت سنة ثم دخلت مسجد المدينة لزيارة قبر النبي فبينما أنا جالس ذات ليلة بين القبر والمنبر إذا سمعت أنينا فأصغيت إليه فإذا هو يقول

أشجاك نوح حمائم السدر ... فأهجن منك بلابل الصدر

أم عز نومك ذكر غانية ... أهدت إليك وساوس الفكر

يا ليلة طالت على دنف ... يشكو السهاد وقلة الصبر

أسلمت من تهوى لحر جوى ... متوقد كتوقد الجمر

فالبدر يشهد إنني كلف ... مغرم بحب شبيهة البدر

ما كنت أحسبني أهيم بحبها ... حتى بليت وكنت لا أدري

ثم انقطع الصوت فلم أدر من أين جاء وإذا به قد عاد البكاء والأنين ثم أنشد يقول

أشجاك من ريا خيال زائر ... والليل مسود الذوائب عاكر

واعتاد مهجتك الهوى برشيشة ... وأهتاج مقلتك الخيال الزائر

ناديت ريا والظلام كأنه ... يم تلاطم فيه موج زاخر

والبدر يسري في السماء كأنه ... ملك ترجل والنجوم عساكر

وترى به الجوزاء ترقص في الدجى ... رقص الحبيب علاه سكر طاهر

يا ليل طلت على محب ماله ... إلا الصباح مساعد وموازر

فأجابني

مت حتف أنفك واعلمن ... إن الهوى لهو الهوان الحاضر

قال وكنت ذهبت عند ابتدائه بالأبيات فلم يتنبه إلا وأنا عنده فرأيت شابا مقتبلا شبابه قد خرق الدمع في خده خرقين فسلمت عليه فقال إجلس من أنت فقلت عبد الله بن معمر القيسي قال ألك حاجة قلت نعم كنت جالسا في الروضة فما راعني إلا صوتك فبنفسي أفديك فما الذي تجده فقال أنا عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري غدوت يوما الى مسجد الأحزاب فصليت فيه ثم اعتزلت غير بعيد فإذا بنسوة قد أقبلن يتهادين مثل القطا وإذا في وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت علي وقالت يا عتبة ما تقول في وصل من يطلب وصلك ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبرا ولم أقف لها على أثر فأنا حيران أنتقل من مكان الى مكان ثم انصرع وأكب مغشيا عليه ثم أفاق كأنما أصبغت وجنتاه بورس ثم أنشد يقول

أراكم بقلبي من بلاد بعيدة ... فياهل تروني بالفؤاد على بعدي

فؤادي وطرفي ناسفان عليكم ... وعندكم روحي وذكركم عندي

ولست ألذ العيش حتى أراكم ... ولو كنت في الفردوس جنة الخلد فقلت يا إبن أخي تب الى ربك واستغفره من ذنبك فبين يديك هول المطلع فقال ما أنا بسائل حتى يذوب العارضان فلم أزل معه حتى طلع الصباح فقلت قم بنا الى مسجد الأحزاب فلعل الله أن يكشف كربتك فقال أرجوا ذلك إن شاء الله ببركة طاعتك فذهبنا حتى أتينا مسجد الأحزاب فسمعته يقول

يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهار طربا

ما إن يزال غزال منه يقلقني ... يأتي الى مسجد الأحزاب منتقبا

يخبر الناس إن الأجر همته ... وما أنا طالبا للأجر محتسبا


لو كان يبغي ثوابا ما أتى صلفا ... مضمخا بفتيت المسك مختضبا

ثم جلسنا حتى صلينا الظهر فإذا بالنسوة قد أقبلن وليست الجارية فيهن فوقفن عليه وقلن له يا عتبة ما ظنك بطالبة وصلك وكاشفة بالك قال وما بالها قلن أخذها أبوها وارتحل بها الى أرض السماوة فسئلتهن عن الجارية فقلن هي ريا بنت الغطريف السلمي فرفع عتبة اليهن رأسه وقال

خليلي ريا قد أجد بكورها ... وسارت إلى أرض السماوة وغيرها

خليلي إني قد غشيت من البكا ... فهل عند غيري مقلة أستعيرها فقلت له إني قد وردت بمال جزيل أريد به أهل الستر ووالله لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضاء فقم بنا الى مسجد الأنصار فقمنا وسرنا حتى أشرفنا على ملأ منهم فسلمت فأحسنوا الرد فقلت أيها الملأ ما تقولون في عتبة وأبيه قالوا من سادات العرب قلت فإنه قد رمى بداهية من الهوى وما أريد منكم إلا المساعدة الى السماوة فقالوا سمعا وطاعة فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على منازل بني سليم فأعلم الغطريف بنا فخرج مبادرا فاستقلبنا وقال حييتم بالإكرام فقلنا وأنت فحياك الله إنا لك أضياف فقال نزلتم أكرم منزل فنادي يا معشر العبيد أنزلوا القوم ففرشت الإنطاع والنمارق وذبحت الذبائح فقلنا لسنا بذائقي طعامك حتى تقضي حاجتنا فقال وما حاجتكم قلنا نخطب عقليتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر فقال إن التي تخطبونها أمرها الى نفسها وأنا أدخل أخبرها ثم دخل مغضبا على إبنته فقال يا أبت مالي أرى الغضب في وجهك فقال قد ورد الأنصار يخطبونك مني فقال سادات كرام إستغفر لهم الرسول فلمن الخطبة منهم قال لعتبة قالت والله لقد سمعت عن عتبة هذا إنه يفي بما وعد ويدرك إذا قصد فقال أقسمت لأزوجنك إياه أبدا ولقد نمى الي بعض حديثك معه فقالت ما كان ذلك ولكن إذا أقسمت فإن الأنصار لا يردون ردا قبيحا فأحسن لهم الرد فقال بأى شيء قالت اغلظ عليهم المهر فإنهم قوم يرجعون ولا يحيبون فقال ما أحسن ما قلت فخرج مبادرا عليهم فقال إن فتات الحي قد أجابت ولكني أريد لها مهر مثلها فمن القائم به فقال عبد الله بن معمر أنا فقل ما شئت فقال ألف مثقال من الذهب ومائة ثوب من الأبراد وخمسة أكرسة من عنبر فقال عبد الله لك ذلك كله فهل أحببت قال نعم قال عبد الله فأنفذت نفرا من الأنصار الى المدينة فأتوا بجميع ما طلب ثم صنعت الوليمة فاقمنا على ذلك أياما ثم قال خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين ثم حملها في هودج وجهز بثلاثين راحلة من المتاع والتحف فودعناه وسرنا حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الغارة أحسبها من سليم فحمل عليها عتبة فقتل منهم رجالا وجندل منهم آخرين ثم رجع وبه طعنة تفور دما فسقط الى الأرض وأتانا نجدة فطردت الخيل عنا وقد قضى عتبة نحبه فقلنا واعتبتاه فسمعتنا الجارية فألقت نفسها عن البعير وجعلت تصيح بحرقة وأنشدت

تصبرت لا إني ثبرت وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقة

فلو أنصفت روحي لكانت الى الردى ... أمامك من دون البرية سابقة

فما أحد بعدي وبعدك منصف ... خليلا ولا نفس لنفس موافقة

ثم شهقت وقضت نحبها فاحتفرنا لهما قبرا واحدا ودفناهما فيه ثم رجعت الى المدينة فأقمت سبع سنين ثم ذهبت الى الحجاز ووردت المدينة فقلت والله لآتين قبر عتبة أزوره فأتيت القبر فإذا عليه شجرة عليها عصائب حمر وصفر فقلت لأرباب المنزل ما يقال لهذه الشجرة قالوا شجرة العروسين ولو لم يكن في العشق من الرخصة المخالفة للتشديد إلا الحديث الوارد بالحسن من الأسانيد وهو حديث سويد بن سعيد بن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن العباس يرفعه من عشق وعف وكتم فمات فهو شهيد ورواه سويد أيضا عن ابن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا ورواه الخطيب عن الأزهري في الأم عن المعافا بن زكريا عن قطبة عن ابن الفضل عن أحمد بن مسروق عنه ورواه الزبير بن بكار عن عبد العزيز الماجشون عن عبد العزيز ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس وهذا سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين نظر الى زينب بنت جحش رضي الله عنها فقال سبحان مقلب القلوب وكانت تحت زيد بن حارثة مولاه فلما هم بطلاقها قال هل اتق الله وامسك عليك زوجك فلما طلقها زوجها الله سبحانه من رسوله من فوق سبع سموات فكان هو وليها وولي تزويجها من رسول الله وعقد عقد نكاحها فوق عرشه وأنزل على رسوله وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وهذا داود نبي الله عليه السلام لما كان تحته تسعة وتسعين امرأة ثم أحب تلك المرأة وتزوجها وأكمل بها المأة قال الزهري أول حب كان في الإسلام حب النبي لعائشة رضي الله عنها وكان مسروق يسميها حبيبة رسول رب العالمين وقال أبو القيس مولي عبد الله ابن عمرو وأرسلني عبد الله بن عمرو الى أم سلمة أسألها أكان رسول الله يقبل أهله وهو صائم فقالت لا فقال إن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي يقبلها وهو صائم فقالت أم سلمة رضي الله عنها إن النبي إذا رأي عائشة لم يتمالك نفسه عنها وذكر سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن أبيه قال كان إبراهيم خليل الله يزوره جبرائيل في كل يوم من الشام على البراق من شغفه به وقلة صبره عنه وذكر الخرائطي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما اشترى جارية رومية فكان يحبها حبا شديدا فوقعت ذات يوم عن بغلة له فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها ويقبلها وكانت تكثر من أن تقول له يا بطرون أنت قالون تعني يا مولاي أنت جيد ثم إنها هربت منه فوجد عليها وجدا شديدا فقال

قد كنت أحسبني قالون فانصرفت ... فاليوم أعلم إني غير قالون

قال أبو محمد بن حزم وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين كثير وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين رأيت امرأة فعشقتها فقال ذلك ما لا يملك فالجواب وبالله التوفيق أن الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الواقع والجائز والنافع والضار ولا يستعجل عليه بالذم والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلقه وإلا فالعشق من حيث هو لا يحمد ولا يذم ونحن نذكر النافع من الحب والضار والجائز والحرام أعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلة القولب على محبته وفطرت الخليقة على تألهه وبها قامت الأرض والسموات وعليها فطر المخلوقات وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله فإن الآله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده والعبادة لا تصح الاله وحده والعبادة هى كمال الحب مع كمال الخضوع والذل والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله والله سبحانه يحب لذاته من سائر الوجوه وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة ودعوة جميع رسله أجمعين وفطرته التي فطر عليها عباده وما ركب فيها من العقول وما أسبغ عليهم من النعم فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها فكيف بمن كل الإحسان منه وما بخلقه جميعهم من نعمه وحده لا شريك له كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله الآية وما تعرف به الى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العليا وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته والمحبة له داعيين الجلال والجمال والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك فإنه جميل يحب الجمال بل الجمال كله له والإجمال كله منه فلا يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سواه قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية والولاية أصلها الحب فلا موالات إلا بحب كما أن العداوة أصلها البغض والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه فهم يوالونه بمحبتهم له وهو يواليهم بمحبته لهم فالله يوالي عبده المؤمن بحسب محبته له ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياء بخلاف من والى أولياءه فإنه لم يتخذهم من دونه بل موالاته لهم من تمام موالاته وقد أنكر على من سوى بينه وبين غيره في المحبة وأخبر أن من فعل ذلك فقد اتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وأخبر عمن سوي بينه وبين الأنداد في المحبة أنهم يقولون في النار لمعبوديهم تالله إن كن لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وبهذا التوحيد في المحبة أرسل الله سبحانه جميع رسله وأنزل جميع كتبه وأطبقت عليه دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم الى آخرهم ولأجله خلقت السموات والأرض والجنة والنار فجعل الجنة لأهله والنار للمشركين به وفيه وقد أقسم النبي أنه لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين فكيف بمحبة الرب جل جلاله وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لا حتى أكون أحب إليك من نفسك أي لا تؤمن حتى تصل محبتك لي إلى هذه الغاية فإذا كان النبي أولى بنا من أنفسنا بالمحبة ولوازمها أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره أولى بمحبته وعبادته من أنفسهم وكل ما منه الى عبده المؤمن يدعوه الى محبة ما يحب العبد ويكرهه فعطاؤه ومنعه ومعافاته وابتلائه وقبضه وبسطه وعدله وفضله وأمانته وإحياؤه ولطفه وبره ورحمته وإحسانه وستره وعفوه وحلمه وصبره على عبده وإجابته لدعائه وكشف كربه وإغاثة لهفته وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه كل ذلك داع للقلوب الى تألهه ومحبته بل تمكينه عبده من معصيته وإعانته عليه وستره حتى يقضي وطره منها وكلائته وحراسته له وهو يقضي وطره من معصيته وهو يعينه ويستعين عليها بنعمه من أقوى الدواعي الى محبته فلو أن مخلوقا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع رساءته فخيره إليك نازل وشرك إليه صاعد يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه والعبد يتبغض اليه بالمعاصي وهو فقير إليه فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته ولا معصية العبد ولومه يقطع إحسان ربه عنه فألأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه وتعلقها بمحبة سواه وأيضا فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك والرب سبحانه وتعالى يريد لك كما في الأثر الآلهي عبدي كل يريدك لنفسه وأنا أريدك لك فكيف لا يستحيي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة وهو معرض عنه مشغول بحب غيره وقد استغرق قلبه محبة ما سواه وأيضا فكل من تعامله من الخلق ان لم يربح عليك لم يعاملك ولا بدله من نوع من أنواع الربح والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا وأيضا فهو سبحانه خلقك لنفسه وكل شيء خلق لك في الدنيا والآخرة فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته وأيضا فمطلبك بل مطالب الخلق كلهم جميعا لديه وهو أجود الاجودين وأكرم الأكرمين ويعطي عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله يشكر على القليل من العمل وينميه ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ويسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن لا يشغله سمع عن سمع ولا يغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بالحاح الملحين بل يجب الملحين في الدعاء ويجب أن يسئل ويغضب اذا لم يسئل فيستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ويستره حيث لا يستر نفسه وبرحمة حيث لا يرحم نفسه دعاه بنعمته وإحسابه وناداه الى كرامته ورضوانه فأبي فأرسل في طلبه وبعث معهم اليه عهده ثم نزل سبحانه بنفسه وقال من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له أدعوك للوصل فتأبي أبعث رسلي في الطلب أنزل اليك بنفسي ألقاك في النوم وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات الا هو ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويغيث اللهفات وينيل الطلبات سواه فهو أحق من ذكر وأحق من شكر وأحق من حمد وأحق من عبد وأنصر من ابتغى وأرأف من ملك وأجود من سئل وأوسع من أعطي وأرحم من استرحم وأكرم من قصد وأعز من التجيء اليه وأكفي من توكل عليه أرحم بعبده من الوالدة بولدها وأشد فرحا بتوبة عباده التائبين من الفاقد لراحلته التي عليها طعامها وشرابه في الارض المهلكة اذا يأس من الحياة فوجدها وهو الملك فلا شريك له والفرد فلا ندله كل شيء هالك الا وجهه لن يطاع الا بإذنه ولن يعصي إلا بعلمه يطاع فيشكر وبتوفيقه ونعمته أطيع ويعصي فيغفر ويعف وحقه أضيع فهو أقرب شهيد وأدنى حفيظ وأوفى وفي بالعهد وأعدل قائم بالقسط حال دون النفوس وأخذ بالنواصي وكتب الآثار ونسخ الاجال فالقولب له مفضية والسر عنده علانية والعلانية والغيوب لديه مكشوف وكل أحد اليه ملهوف وعنت الوجوه لنور وجهه وعجزة القلوب عن إدراك كنهه ودلت الفطرة ةالادلة كلها على إمتناع مثله وشبهه أشرقت لنور وجهه الظلمات إستنارت له الارض والسموات وصلحت عليه جميع المخلوقات لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يحفظ القسط ويرفعه يرفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه بالنور لو كشفه لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه ما

اعتاض باذل حبه لسواه من ... عوض ولو ملك الوجود بأسره


فصل

وههنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به وهو أن كمال اللذة والسرور والفرح ونعيم القلب وإبتهاج الروح تابع لامرين أحدهما كمال المحبوب في نفسه وجماله وإنه أولى بايثار المحبة من كل ما سواه والامر الثاني كمال محبته واستفراغ الوسع في حبه وإيثار قربه والوصول اليه على كل شيء وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوته ومحبته فكل ما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحب أكمل فلذة من اشتد ظمؤه بادراك الماء الزلال ومن اشتد جوعه باكل الطعام الشهى ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرداته ومحبته فاذا عرفت هذا فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسها فهي تذم اذا أعقبت ألم أعظم منها أو منعت لذة خيرا منها وأجل فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات وفوتت أعظم اللذات والمسرات وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما وهي لذة الاخرة ونعيمها وطيب العيش فيها قال تعالى بل تؤثرون الحيوة الدنيا الآية والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليبتليهم وينيل من أطاعه هذه اللذة الدائمة في دار الخلد وأما الدنيا فمنقطعة ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم بخلاف الآخرة فان لذاتها دائمة ونعيمها خالص من كل كدر وألم وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين مع الخلود أبدا فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين بل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهذا المعني الذي قصده الناصح لقومه بقوله يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم انما هذه الحياة الدنيا متاع وان الآخرة هي دار القرار فاخبرهم ان الدنيا متاع ليستمتع بها الى غيرها وان الآخرة هي المستقر واذا عرفت أن لذات الدنيا متاع وسبيل الى لذات الاخرة ولذلك خلقت الدنيا لذاتها فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت اليها لم يذم تناولها بل يحمد لحسب ايصالها الى لذة الآخرة اذا عرف فاعظم نعيم الآخرة ولذاتها النظر الى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والقرب منه كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية فوالله ما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه وفي حديث اخر إنه اذا تجلى لهم ورأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وفي النسائي ومسند الامام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي في دعائه واسئلك اللهم لذة النظر الى وجهك الكريم والشوق الى لقائك وفي كتاب السنة العبد الله بن الامام أحمد مرفوعا كأن الناس يوم القيمة لم يسمعوا القران من الرحمن فاذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك فاذا عرف هذا فاعظم الاسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الاطلاق وهي لذة معرفته سبحانه ولذة محبته فان ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي ونسبة لذاتها الفانية اليه كتلفة في بحر فان الروح والقلب والبدن انما خلق لذلك فاطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته فمحبته ومعرفته قرة العيون ولذة الأرواح وبهجة القلوب ونعيم الدنيا وسرورها من اللذة القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك فليس الحياة الطيبة الا بالله وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وكان غيره يقول لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجلدونا عليه بالسيوف وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب يقول في حاله

وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوي ... فلا خير فمن لا يحب ويعشق

ويقول آخر

أف للدنيا متى ما لم يكن ... صاحب الدنيا محب أو حبيب ويقول الآخر

ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ... وأنت وحيد مفرد غير عاشق

ويقول الآخر

أسكن الى سكن تلذ بحبه ... ونهب الزمان وأنت منفرد

ويقول الآخر

تشكي المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يتقون من بينهم وحدي

فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي

فيكف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الارواح وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة الا بها وإذا فقدها القلب كان المه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها والأذن إذا فقدت سمعها والانف إذا فقد سمه واللسان إذا فقد نطقه بل فساد القلب إذا خلى من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلي منه الروح وهذا الأمر لا يصدق به الأمن فيه حياة وما لجرح ميت ايلام والمقصود إن أعظم لذات الدنيا هي السبب الموصل الى أعظم لذة في الآخرة ولذات الدنيا أنواع فاعظمها وأكملها ما أوصل الى لذة الآخرة ويثاب الانسان على هذه اللذة أتم ثواب ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه وشفاء غيظ لقهر عدو الله وعدوه فكيف بلذة ايمانه ومعرفته بالله ومحبته له وشوقه الى لقائه وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم النوع الثاني لذة تمنع لذة الآخرة وتعقب آلاما أعظم منها كلذة الذين اتخذوا من دون الله أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا يحبونهم كحب الله ويستمع بعضهم ببعض كما يقولون في الآخرة اذا لقوا ربهم ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا آجلنا الذي أجلت لنا الآية الى قوله يكسبون ولذة أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلو بغير الحق وهذه اللذات في الحقيقة انما هي استدراج من الله لهم ليذيقهم بها أعظم الآلام ويحرمهم بها أكمل اللذات بمنزلة من قدم لغيره طعام لذيد مسموم يستدرجه به الى هلاكه قال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعملون الآية إلى قوله إن كيدي متين قال بعض السلف في تفسيرها كل ما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة حتى اذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون الآية إلى قوله والحمد لله رب العالمين وقال تعالى لاصحاب هذه اللذة أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بلابل لا يشعرون وقال في حقهم فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا الآية وهذه اللذة تنقلب آلاما من أعظم الآلام كما قيل

يا رب كائنة في الحياة لاهلها ... عذبا فصارت في المعاد عذابا

النوع الثالث لذة لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما يمنع وصول لذة دار القرار وإن منعت كمالها وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة فهذه زمانها يسير وليس لتمتع النفس بها قدر ولا بد أن يشتغل عما هو خير وأنفع منها وهذا القسم هو الذي عناه النبي بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل الأرمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حق وما لم يعن عليها فهو باطل


فصل


فهذا الحب لا ينكر ولا يذم بل هو أحد أنواع الحب وكذلك حب رسول الله وإنما نعني بالمحبة الخاصة وهي التي تشغل قلب المحب وفكره وذكره لمحبوبه والا فكل مسلم في قلبه محبة الله ورسوله ولا يدخل الاسلام إلا بها والناس متفاوتون في درجات هذه المحبة تفاوت لا يحصيه إلا الله فبين محبة الخليلين ومحبة غيرهما ما بينهما فهذه المحبة هي التي تلطف وتخفف اثقال التكاليف وتسخي البخيل وتشجع الجبان وتصفي الذهن وتروض النفس وتطيب الحياة على الحقيقة لا محبة الصور المحرمة وإذا بليت السرائر يوم اللقاء كانت سريرة صاحبها من خير سرائر العباد كما قيل

سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا ... سريرة حب يوم تبلى السرائر

وهذه المحبة هي التي تنور الوجه وتشرح الصدر وتحيي القلب وكذلك محبة كلام الله فانه من علامة حب الله وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله فانظر محبة القرآن من قلبك وإلتذاذك سماعه أعظم من إلتذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم فإنه من المعلوم أن من أحب حبيبا كان كلامه وحديثه احب شيئا اليه كما قيل

ان كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي ... أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي

وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله وكيف يشبع المحب من كلام من هو غاية مطلوبه وقال النبي يوما لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه إقرأ علي فقال أقرأ عليك وعليك أنزل فقال إني أحب أن أسمعه من غيري فاستفتح فقرأ سورة النساء حتى إذا بلغ قوله فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن فرفع رأسه فاذا عينا رسول الله تذرفان من البكاء وكان الصحابة اذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى يقولون يا أبا موسى إقرأ علينا فيقرأوهم يستمعون فلمحبي القرآن من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعاف مالمحبي السماع الشيطاني فاذا رأيت الرجل ذوقه وشدة وجده وطربه وشوقه سماعه الابيات دون سماع الآيات في سماع الالحان دون سماع القرآن وهو كما قيل

نقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر ... وبيت من الشعر ينشد فتميل كالنشوان

فهذا من أقوي الادلة على فراغ قلبه من محبة الله وكلامه وتعلقه بمحبة سماع الشيطان والمغرور يعتقد انه على شيء ففي محبة الله وكلامه ورسوله أضعاف أضعاف ما ذكر السائل من فوائد العشق ومنافعه بل لا حب على الحقيقة أنفع منه وكل حب سوى ذلك باطل ان لم يعن عليه ويسوق المحب اليه


فصل

وأما محبة النسوان فلا لوم على المحب فيها بل هي من كماله وقد من الله سبحانه بها على عباده فقال ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة الآية فجعل المرأة سكنا للرجل يسكن اليه قلبه وجعل بينهما خالص الحب وهو المودة المقترنة بالرحمة وقد قال تعالى عقيب ذكره ما أحل لنا من النساء وما حرم منهن يريد الله ليبين لكن ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله حكيم الى قوله خلق الانسان ضعيفا وذكر سفيان الثوري في تفسيره عن ابن طاوس عن أبيه كان اذا نظر الى النساء لم يصبر عنهن وفي الصحيح من حديث جابر عن النبي أنه رأى إمرأة فأتى زينب فقضى حاجته منها وقال ان المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة الشيطان فاذا رأى أحدكم امرأة فاعجبته فليأت أهله فان ذلك يرد ما في نفسه ففي هذا الحديث عدة فوائد منها الارشاد الى التسلي عن المطلوب بجنسه كما يقوم الطعام مكان الطعام والثوب مقام الثوب ومنها الامر بمداوات الاعجاب بالمرأة المورث لشهوتها بانفع الأدوية وهو قضاء وطره من أهله وذلك ينقض شهوته بها وهذا كما أرشد المتحابين الى النكاح كما في سنن ابن ماجه مرفوعا لم ير للمتحابين مثل النكاح ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله داءه شرعا وقدرا وبه تدواي نبي الله داود ولم يرتكب نبي الله محرما وانما تزوج المرأة وضمها الى نسائه لمحبته لها وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته ولا يليق بنا المزيد على هذا وأما قصة زينب بنت جحش فزيد كان قد عزم على طلاقها ولم توافقه وكان يستشير رسول الله في فراقها وهو يأمره بامساكها فعلم رسول الله انه سيفارقها ولا بد فاخفى في نفسه ان يتزوجها اذا فارقها زيد وخشى مقالة الناس ان رسول الله تزوج زوجة ابنه فانه كان قد تبني زيد قبل النبوة والرب تعالى يريد أن يشرع شرعا عاما فيه مصالح عباده فلما طلقها زيد وانقضت عدتها منه أرسله اليها يخطبها لنفسه فجاء زيد واستدبر الباب بظهره وعظمت في صدره لما ذكره رسول الله فناداها من وراء البا يا زينب ان رسول الله يخطبك فقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي وقامت الى محرابها فصلت فتولى الله عز جل نكاحها من رسوله بنفسه وعقد النكاح له من فوق عرشه وجاء الوحي بذلك فلما قضى زيد منها وطر ازوجنا كها فقام رسول الله لوقته فدخل عليها فكانت تفخر على نساء النبي بذلك وتقول أنتن زوجتكن أهليكن وزوجني الله عز وجل من فوق سبع سموات فهذه قصة رسول الله مع زينب ولا ريب أن النبي حبب اليه النساء كما في الصحيح من حديث أنس ورواه النسائي في سننه والطبراني في الاوسط عنه قال حبب الي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة هذا لفظ الحديث لا ما يرويه بعضهم حبب الي من دنياكم ثلاث زاد الامام أحمد في كتاب الزهد في هذا الحديث اصبر عن الطعام والشراب ولا اصبر عنهن وقد حسده اعداء الله اليهود على ذلك وقالوا ما همه إلا النكاح فرد الله سبحانه عن ونافح عنه فقال ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله الاية وهذا خليل الله أمام الحنفاء كان عنده سارة أجمل نساء العالمين وأحب هاجر وتسرى بها وهذا داود عليه السلام كان عنده تسعة وتسعون امراة فاحب تلك المراة وتزوجها فكمل المائة وهذا سليمان ابنه عليه السلام كان يطوف في الليلة على تسعين امراة وقد سئل رسول الله عن أحب الناس اليه فقال عائشة رضى الله عنها وقال عن خديجة إني رزقت حبها فمحبة النساء من كمال الانسان قال ابن عباس خير هذه الامة أكثرهم نساء وقد ذكر الامام احمد ان عبد الله بن عمر وقع في سهمه يوم حلولا جارية كان عنقها ابريق فضة قال عبدالله فما صبرت عنها ان قبلتها والناس ينظرون الي وبهذا احتج الامام احمد على حواز الاستمتاع بالمسبية قبل الاستبراء بغير الوطء بخلاف الامة المشتركة والفرق بينهما انه لا يتوهم انفساخ الملك في المسبية بخلاف المشتركة فقد ينفسخ فيها الملك فيكون مستمتعا بأمة غيره وقد شفع النبي لعاشق ان يواصله معشوقه بان يتزوج به فأبت وذلك في قصة مغيث وبريرة فانه راه يمشي خلفها بعد فراقها ودموعه تجري على خديه فقال لها رسول الله لو راجعتيه فقالت اتأمرني قال لا انما اشفع فقالت لا حاجة لي به فقال لعمه يا عباس الا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغضها له ولم ينكر عليه حبها وان كانت قد بانت منه فان هذا مالا يملكه وكان النبي يساوي بين نسائه بالقسم ويقول اللهم هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما لا املك يعني في الحب وقد قال تعالى ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم يعني في الحب والجماع فلا تميلوا كل الميل ولم يزل الخلفاء الراشدين الرحماء من الناس يشفعون للعشاق الى معشوقهم الجائز وصلهن كما تقدم من فعل ابي بكر وعثمان وكذلك علي أتي بغلام من العرب وجد في دار قوم بالليل فقال له ما قصتك قال لست بسارق ولكني أصدقك

تعلقت في دار الرباحي خريده ... يذل لها من حسن منظرها البدر

لها في بنات الروم حسن ومنظر ... اذا افتخرت بالحسن عانقها الفخر

فلما طرقت الدار من حب مهجتي ... اتيت وفيها من يوقدها الجمر

تبادرا اهل الدار بي ثم صيحوا ... هو اللص محوم له القتل والاسر


فلما سمع علي بن ابي طالب رضى الله عنه قوله رق له وقال للمهلب بن رباح اسمح له بها فقال يا امير المؤمنين سله من هو فقال النهاس بن عيبنة فقال خذها فهي لك واشتري معاوية جارية فاعجب بها اعجابا شديدا فسمعها يوما تنشد أبياتا منها

وفارقته كالفصن يهتز في الثرى ... طريرا وسيما بعد ماطر شاربه

فسئلها فأخبرته انها تحب سيدها فردها اليه وفي قلبه منها وذكر الزمخشري في ربيعه ان زبيدة قرات في طريق مكة على حائط

اما في عباد الله او في امائه ... كريم يجلى الهم عن ذاهل العقل

له مقله اما الماء في قريحة ... واما الحشا فالنار منه على رجل

فنذرت ان تحتال لقائلها ان عرفته حتى تجمع بينه وبين من يحبه فبينما هي في المزدلفة اذ سمعت من ينشد البيتين فطلبته فزعم انه قالهما في ابنة عم له نذر اهلها ان لا يزوجوها منه فوجهت الى الحي وما زالت تبذل لهم المال حتى زوجوها منه واذا المرأة اعشق منه لها فكانت تعده من اعظم حسناتها فتقول ما انا بشيء اسر مني من جمعي بين ذلك الفتي والفتاة وقال الخرائطي وكان لسليمان بن عبد الملك غلام وجارية يتحابان فكتب الغلام لها يوما

ولقد رأيتك في المنام كأنما ... اسقيتني من ماء فيك البارد

وكان كفك في يدي وكأننا ... بتنا جميعا في فراش واحد

فطفقت نومي كله متراقدا ... لأراك في نومي ولست براقد

فاجابته الجارية

خيرا رأيت وكلما ابصرته ... ستناله مني برغم الحاسد

اني لأرجو ان تكون معانقي ... وتبيت مني فوق ثدي ناهد

واراك بين خلاخلي ودمالجي ... واراك فوق ترائبي ومحاشدي

فبلغ ذلك سليمان فأنكحها الغلام واحسن حالهما على فرط غيرته وقال جامع ابن مرجيه سألت سعيد بن المسيب مفتي المدينة هل من حب درهما من وزر فقال سعيد انما تلام على ما تستطيع من الأمر فقال سعيد والله ما سألني احد عن هذا ولو سألني ما كنت اجيب الا به فعشق النساء ثلاث اقسام عشق هو قربة وطاعة وهو عشق الرجل امرأته وجاريته وهذا العشق نافع فانه ادعي الى المقاصد التي شرع الله لها النكاح واكف للبصر والقلب عن التطلع الى غير أهله ولهذا يحمد هذا العاشق عند الله وعند الناس وعشق هو مقت عند الله وبعد من رحمته وهو اضر شيء على العبد في دينه ودنياه وهو عشق المردان فما ابتلى به الا من سقط من عين الله وطرد عن بابه وأبعد قلبه عنه وهو من اعظم الحجب القاطعة عن الله كما قال بعض السلف إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبة المردان وهذه المحبة هي التي جلبت على قوم لوط ما جلبت وما اوتوا لا من هذا العشق قال الله تعالى لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون ودواء هذا الداء الردى الاستعانة بمقلب القلوب وصدق اللجأ اليه والاشتغال بذكره والتعوض بحبه وقربه والتفكر بالالم الذي يعقبه هذا العشق واللذة التي تفوته به فترتب عليه فوات اعظم محبوب وحصول اعظم مكروه فاذا قدمت نفسه على هذا وآثرته فليكبر على نفسه تكبير الجنازة وليعلم ان البلاء قد احاط به والقسم الثالث من العشق العشق المباح الذي لا يملك كعشق من صورت له امراة جميلة او رآها فجأة من غير تصد فاورثته ذلك عشق لها ولم يحدث له ذلك العشق معصية فهذا لا يملك ولا يعاقب عليه والانفع له مدافعته والاشتغال بما هو انفع له منه والواجب على هذا ان يكتم ويعف ويصبر على بلواه فيثيبه الله على ذلك ويعوضه على صبرة لله وعفته وترك طاعته هواه وايثار مرضاة الله وما عنده


فصل

والعشاق ثلاثة أقسام منهم من يعشق الجمال المطلق ومنهم من يعشق الجمال المقيد سواء طمع بوصاله او لم يطمع ومنهم من لا يعشق الا من طمع لوصاله وبين هذه الانواع الثلاثة تفاوت في القوة والضعف فعاشق الجمال المطلق بهيم قلبه في كل واد وله في كل صورة جميله مراد

فيوما بحزوى ويوم بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء

وتارة ينتحي بنجد ولودية ! شعب العقيق وطورا قصر اينما

فهذا عشقه أوسع ولكنه غير ثابت كثير التنقل

يهيم بهذا ثم يعشق غيره ... ويسلاهم من وقته حين يصبح

وعاشق الجمال المقيد اثبت على معشوقه وأدوم محبة له ومحبته اقوى من محبة الاول لاجتماعهما في واحد ويقسم الاولى ولكن يضعفها عدم الطمع في الوصال وعاشق الجمال الذي يطمع في وصاله اعقل العشاق واعرفهم وحبه اقوى لان الطمع يمده ويقويه


فصل

وأما حديث من عشق وعف فهذا ممن يرويه سويد بن سعيد وقد انكره حفاظ الاسلام عليه قال ابن عدي في كامله هذا الحديث احد ما انكر على سويد وكذلك ذكره البيهقي وابن طاهر في الزخيرة والتذكرة وابو الفرج بن الجوزي وعده من الموضوعات وانكره ابو عبد الله الحاكم على تساهله وقال أنا اتعجب منه قلت والصواب في الحديث انه من كلام ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه فغلط سويد في رفعه قال ابو محمد بن خلف بن المرزبان حدثنا ابو بكر بن الارزق عن سويد فعاتبته على ذلك فاسقط ذكر النبي وكان بعد ذلك يسأل عنه ولا يرفعه ولا بشبه هذا كلام النبوة واما ما رواه الخطيب له عن الزهري حدثنا المعافا بن زكريا حدثنا قطبة بن الفضل حدثنا احمد بن محمد بن مسروق حدثنا سويد حدثنا ابن مسهر عن هشام بن عروة عن ابيه عن عائشة مرفوعا فمن ابين الخطأ ولا يحمل هذا عن هشام عن أبيه عن عائشة مثل هذا عنه من شم أدني رائحة من العلم من الحديث ونحن نشهد بالله ان عائشة ما تكلمت بهذا عن رسول الله قط ولا حدث به عنها عروة ولا حدث به عنه هشام قط واما حديث ابن الماجشون عن عبدالله بن ابي حازم عن ابن ابي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا فكذب على بن الماجشون فانه لم يحدث بهذا ولم يحدث به عنه الزبير بن بكار وانما هذا من تركيب بعض الوضاعين ويا سبحان الله كيف يحتمل هذا الاسناد مثل هذا المتن فقبح الله الواضعين وقد ذكره ابو الفرج بن الجوزي من حديث محمد بن جعفر بن سهل حدثنا يعقوب بن عيسى عن ولد عبد الرحمن بن عوف عن ابن ابي نجيح عن مجاهد مرفوعا وهذا غلط قبيح فان محمد بن جعفر هذا هو الخرائطي ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة فمحال ان يدرك شيخه يعقوب ابن ابي نجيح لا سيما وقد رواه في كتاب الاعتلال عن يعقوب هذا عن الزبير عن عبد الملك عن عبد العزيز عن ابن ابي نجيح والخرائطي هذا مشهور بالضعف في الرواية ذكره ابو الفرج في كتاب الضعفاء وكلام حفاظ الاسلام في انكار هذا الحديث هو الميزان واليهم يرجع في هذا الشأن وما صححه بل ولا حسنه احد يعول في علم الحديث عليه ويرجع في الصحيح اليه ولا من عادته التساهل والتسامح فانه لم يصف نفسه له ويكفي ان ابن طاهر الذي يتساهل في احاديث التصوف ويروي منها الغث والسمين والمنجنقة والموقوذة قد انكره وحكم ببطلانه نعم ابن عباس غير مستنكر ذلك عنه وقد ذكر ابو محمد بن حزم عنه انه سئل عن الميت عشقا فقال قتيل الهوي لا عقل ولا قود ورفع اليه بعرفات شاب قد صار كالفرخ فقال ما شأنه فقال العشق فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق فهذا تفسير من قال من عشق وعف وكتم ومات فهو شهيد ومما يوضح ذلك ان النبي عد الشهداء في الصحيح فذكر المقتول في الجهاد والمبطون والحريق والنفساء يقتلها اولدها والغريق وصاحب الهدم فلم يذكر منهم العاشق يقتله العشق وحسب قتيل العشق ان يصح له هذا الاثر عن ابن عباس رضى الله عنهما على انه لا يدخل الجنة حتى يصبر لله ويعف لله ويكتم لله وهذ لا يكون الا مع قدرته على معشوقه وايثار محبة الله وخوفه ورضاه وهذا احق من دخل تحت قوله تعالى واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى وتحت قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم ان يجعلنا ممن آثر وابتغى حبه ورضاه على هواه بذلك قربه ورضاه آمين يا رب العالمين واله وصحبه اجمعين آمين



ب ابنة شعيب بموسى عليه



وقد ضرب الله مثلا في قصة اعجاب ابنة شعيب بموسى عليه السلام على الحب كمشاعر تلامس القلوب , فكانت نتيجته تعريضها بشمائله و عرض والدها الزواج على موسى عليه السلام , فأنفق من عمره الشريف عشر سنين في سبيل حبه لها, فلولا أن الحب من أغلى الأشياء, لما ذهب كثير من زمن النبياء فيه .

وقد جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المفهوم بأن نار الحب إذا اشتعلت لا يطفؤها إلا النكاح وذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :

(لم ير للمتحابين مثل النكاح) ابن ماجة (1847)

ولذلك لم يحتمل النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عندما شاهد المتيم مغيث يقابل بالصد والهجران من بريرة فكان صلى الله عليه وسلم راحما بالمحبين شافعا لهم, وهذا نص الحديث:

قصة بريرة ومغيث :

عن ابن عباس رضي الله عنه ( أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس : يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو راجعتيه . قالت : يا رسول الله أتأمرني؟ قال: إنما أنا شافع , قالت: لاحاجة لي فيه ) البخاري (5283).

ويقول ابن عباس :( ذاك مغيث عبد بني فلان - يعني زوج بريرة- كأني أنظر إليه يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها ) البخاري (5281)

قصة أبوبكر والجارية :

وهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه يمر في خلافته بطريق من طرق المدينة . فإذا جارية تطحن برحاها وتقول :

وهويته من قبل قطع تمائمي متمايسا مثل القضيب الناعم

وكأن نور البدر سُنَّة وجهه ينمي ويصعد في ذؤابة هاشم

فدق عليها الباب فخرجت إليه فقال ويلك أحرة أنت أم مملوكة ؟!

فقالت : بل مملوكة يا خليفة رسول الله . قال فمن هويت ؟! فبكت ثم قالت : بحق الله عليك إلا انصرفت عني . قال : لا أريم أو تعلميني.

فقالت :

وأنا التي لعب الغرام بقلبها فبكت لحب محمد بن قاسم

فصارأبو بكر إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه , وبعث إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب وقال : هؤلاء فِتَنُ الرجال . وكم مات بهن من كريم , وعطب عليهن من سليم .

قصة المحب مع علي :

أُتيَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بغلام من العرب وجد في دار قوم بليل فقال له:

ما قصتك ؟ فقال : لست بسارق , ولكني أصدقك :

تعلقت في دار الرباحـــي خَـــــودة يدل لها من حسنها الشمس والقمر

لها من نبات الروح حسن ومنصب إذا افتخرت بالحسن صدقها الفخر

فلما طرقت الدار من حب مـــهجة أتيت وفيـها من توقدهـــا جــمـــر

تبادر أهل الدار لــي ثم صَيَّــحــوا هو اللص محتوم له القتل والأسر

فلما سمع علي شعره رقَّ له وقال للمهلب بن رباح : اسمح له بها نعوضك منها. فقال يا أمير المؤمنين سله من هو لنعرف نسبه ؟

فقال: النهاس بن عيينة العجلي . فقال: خذها فهي لك .

قصة البدوي العاشق :

ومن غرائب القصص ما ذكر أن المهدي خرج إلى الحج حتى إذا كان في السفر يتغدى فأتى بدوي فناداه : يا أمير المؤمنين, إني عاشق!!!! ورفع صوته .

فقال للحاجب ويحك ما هذا؟!

قال : إنسان يصيح إني عاشق !

قال أدخلوه . فأدخلوه عليه فقال : من عشيقتك ؟

قال ابنة عمي .

قال: أولها أب ؟

قال: نعم,

قال: فما له لا يزوجك إياها ؟!

قال:ها هنا شيء يا أمير المؤمنين

قال : ما هو ؟

قال: إني هجين.

قال له المهدي : فما يكون ؟

قال: إنه عندنا عيب . فأرسل المهدي في طلب أبيها فأتي به ,

فقال : هذا ابن أخيك ؟

قال : نعم .

قال : فلم لا تزوجه كريمتك؟

فقال له مثل مقالة ابن أخيه . وكان من ولد العباس وعنده جماعة .

فقال : هؤلاء كلهم بنو العباس وهم هجن ما الذي يضرهم من ذلك ؟

قال : هو عندنا عيب.

قال : زوجه إياها على عشرين ألف درهم , عشرة آلاف للعيب , وعشرة آلاف مهرها .

قال : نعم.

فحمد الله وأثنى عليه زوجه إياها . فأتى ببدرتين فدفعهما إليه , فأنشأالشاب

يقول:ابتعت ظبية بالغلاء وإنـمـــــــا يعطي الغلاء بمثلها امثــــالـــي

وتركت أسواق الصباح لأهلها إن الصباح وإن رخصن غوالي

فالحب الذي يبقى مقيدا بلجام العفاف والتقوى لا حرج فيه , وسبيله الوحيد النكاح كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم

قصة الطفيل وزوجته :

دخل الطفيل في الإسلام فأتت إليه زوجته لتقرب منه فمنعها وقال : إليك عني فلست منك ولست مني .

قالت ولم؟! بأبي أنت وأمي , فقلت: فرق بيني وبينك الإسلا م,فقد أسلمت , وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم

قالت: أنا منك وأنت مني , وديني دينك فأسلمت

.سير أعلام النبلاء (جـــ1ص248-250),الإصابة(جــــ2ص225)

هكذا يكون جواب المحب لحبيبه , (أنا منك وأنت مني) ولكنه حب موصول بفاطرالسماوات والأرض , خالق الحب ورازقه .

هل تعرفون من هي صاحبة أغلى مهر في العالم؟!

أظنكم فكرتم بأشهر الشخصيات العالمية كالأميرات والممثلات والمغنيات.

لكم الحق في ذلك !!هكذا أعتدنا التفكير لأن صورة الحب أمامنا هكذامعاييره.

ولكن أصحاب الحب الحقيقي عرفوا من تكون, ترى من تكون؟!

فإلى رحاب القصة :

أم سليم وأغلى مهر في العالم :

توفي زوج الرميصاء بنت ملحان المكناة (أم سُليم)

وبعد انتهاء عدتها , تقدم لخطبتها (يزيد بن سهل) المكنى أبو طلحة , ولكنها رفضته.......لماذا؟

أعتقد هو أنها تريد الذهب والفضة .

فسألها : هل تريدين الأصفر والأبيض ؟

فقالت : بل إني أشهدك يا أبا طلحة , وأشهد الله ورسوله انك إن أسلمت رضيت بك زوجا من غير ذهب وفضة , وجعلت إسلامك إيَّ مهراً.

قال: من لي بالإسلام ؟

قالت : أنا لك به.

فقال: كيف؟

قالت: تنطق بكلمة الحق, فتشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله, ثم تمضي إلى بيتك فتحطم صنمك ثم ترمي به .

فانطلقت أسارير أبي طلحة.......

وقال: أشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله.

الإصابة(جـــ1ص566) , الطبقات الكبرى(جـــ3ص504)

الإسلام , هو أغلى مهر حصلت عليه امراة .

فهل أغلى من ذلك ؟ هنيئاً لأم سُليم مهرها الذي سطر تاريخا يتداول على الألسن , ويكفيها تشريفا أن يقول المسلمون :

(ما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سُليم) .

هكذا حب كيف يُنسى؟!

فمن قال انني احب وينوي فيه زواج ونكاح على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسعادة في الدنيا مع زوجة صالحه لتكون له جنة الدنيا وأذكركم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة ) فهنيئا له حُبه فسيكون له عونا على طاعة الله عز وجل , ومن كان حبه فقط باللسان لا ينوي به زواج وستر فهذا الحب المحرم .

ولنتدبر قول الله عز وجل :(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) .

والله تعالى أعلم

وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

الروح والقلب والبدن انما خلق لذلك فاطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته وألذ ما في



عنه عن النبي في دعائه واسئلك اللهم لذة النظر الى وجهك الكريم والشوق الى لقائك وفي كتاب السنة العبد الله بن الامام أحمد مرفوعا كأن الناس يوم القيمة لم يسمعوا القران من الرحمن فاذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك فاذا عرف هذا فاعظم الاسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الاطلاق وهي لذة معرفته سبحانه ولذة محبته فان ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي ونسبة لذاتها الفانية اليه كتلفة في بحر فان الروح والقلب والبدن انما خلق لذلك فاطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته فمحبته ومعرفته قرة العيون ولذة الأرواح وبهجة القلوب ونعيم الدنيا وسرورها من اللذة القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك فليس الحياة الطيبة الا بالله وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وكان غيره يقول لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجلدونا عليه بالسيوف وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب يقول في حاله
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوي ... فلا خير فمن لا يحب ويعشق
ويقول آخر
أف للدنيا متى ما لم يكن ... صاحب الدنيا محب أو حبيب ويقول الآخر
ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ... وأنت وحيد مفرد غير عاشق
ويقول الآخر
أسكن الى سكن تلذ بحبه ... ونهب الزمان وأنت منفرد
ويقول الآخر
تشكي المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يتقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
فيكف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الارواح وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة الا بها وإذا فقدها القلب كان المه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها والأذن إذا فقدت سمعها والانف إذا فقد سمه واللسان إذا فقد نطقه بل فساد القلب إذا خلى من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلي منه الروح وهذا الأمر لا يصدق به الأمن فيه حياة وما لجرح ميت ايلام والمقصود إن أعظم لذات الدنيا هي السبب الموصل الى أعظم لذة في الآخرة ولذات الدنيا أنواع فاعظمها وأكملها ما أوصل الى

كمال اللذة في كمال المحبو



كمال اللذة في كمال المحبوب وكمال المحبة

وهذا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به ، وهو أن كمال اللذة والفرح والسرور ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين : أحدهما : كمال المحبوب في نفسه وجماله ، وأنه أولى بإيثار المحبة من كل ما سواه .

والأمر الثاني : كمال محبته ، واستفراغ الوسع في حبه ، وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء .

وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته ، فكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحب أكمل ، فلذة العبد من اشتد ظمؤه بإدراك الماء الزلال ، ومن اشتد جوعه بأكل الطعام الشهي ، ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته .

وإذا عرفت هذا ، فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه ، بل هو مقصود كل حي وعاقل ، إذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي تذم إذا أعقبت ألما أعظم منها ، أو منعت لذة خيرا منها وأجل ، فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات ، وفوتت أعظم اللذات [ ص: 232 ] والمسرات ؟ وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما ، وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها ، قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ سورة الأعلى : 16 - 17 ] .

وقال السحرة لفرعون لما آمنوا :

فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى [ سورة طه : 72 - 73 ] .

والله سبحانه وتعالى خلق الخلق لينيلهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد ، وأما الدنيا فمنقطعة ، ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم ، بخلاف الآخرة ، فإن لذاتها دائمة ، ونعيمها خالص من كل كدر وألم ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مع الخلود أبدا ، ولا تعلم نفس ما أخفى الله لعباده فيها من قرة أعين ، بل فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وهذا المعنى الذي قصده الناصح لقومه :

ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ سورة غافر : 38 - 39 ] .

فأخبرهم أن الدنيا يستمتع بها إلى غيرها ، وأن الآخرة هي المستقر .

وإذا عرفت أن لذات الدنيا ونعيمها متاع ، ووسيلة إلى لذات الآخرة ، ولذلك خلقت الدنيا ولذاتها ، فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت إليها لم يذم تناولها ، بل يحمد بحسب إيصالها إلى لذة الآخرة .

رؤية الله

إذا عرف هذا فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها : هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله ، وسماع كلامه منه ، والقرب منه ، كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية : فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وفي حديث آخر : إنه إذا تجلى لهم ورأوه ؛ نسوا ما هم فيه من النعيم .

[ ص: 233 ] وفي النسائي ومسند الإمام أحمد عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه : وأسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك وفي كتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد مرفوعا : كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن ، إذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك .

وإذا عرف هذا ، فأعظم الأسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق ، وهي لذة معرفته سبحانه ، ولذة محبته ، فإن ذلك هو جنة الدنيا ونعيمها العالي ، ونسبة لذاتها الفانية إليه كتفلة في بحر ، فإن الروح والقلب والبدن إنما خلق لذلك ، فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته ، فمحبته ومعرفته قرة العيون ، ولذة الأرواح ، وبهجة القلوب ، ونعيم الدنيا وسرورها ، بل لذات الدنيا القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك ، فليست الحياة الطيبة إلا بالله .

وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول : إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب ، وقد تقدم ذلك ، وكان غيره يقول : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .

وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب ، يقول في حاله :




وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى فلا خير فيمن لا يحب ويعشق

ويقول غيره :




أف للدنيا إذا ما لم يكن صاحب الدنيا محبا أو حبيبا


ويقول آخر :




ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها وأنت وحيد مفرد غير عاشق


ويقول الآخر :




اسكن إلى سكن تلذ بحبه ذهب الزمان وأنت منفرد


ويقول الآخر :




تشكى المحبون الصبابة ليتني تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلها فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي


فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب ، وغذاء الأرواح ، وليس للقلب لذة ، ولا نعيم ، ولا فلاح ، ولا حياة إلا بها ، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها ، والأذن إذا فقدت سمعها ، والأنف إذا فقد شمه ، واللسان إذا فقد نطقه ، بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره [ص: 234 ] وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا منه الروح ، وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة ،


وما لجرح ميت إيلام.

والمقصود : أن أعظم لذات الدنيا هو السبب الموصل إلى أعظم لذة في الآخرة ، ولذات الدنيا ثلاثة أنواع :

فأعظمها وأكملها : ما أوصل لذة الآخرة ، ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتم ثواب ، ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله ، من أكله ، وشربه ، ولباسه ، ونكاحه ، وشفاء غيظه بقهر عدو الله وعدوه ، فكيف بلذة إيمانه ، ومعرفته بالله ، ومحبته له ، وشوقه إلى لقائه ، وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم ؟

النوع الثاني : لذة تمنع لذة الآخرة ، وتعقب آلاما أعظم منها ، كلذة الذين اتخذوا من دون الله أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا يحبونهم كحب الله ، ويستمتعون بعضهم ببعض ، كما يقولون في الآخرة إذا لقوا ربهم :

ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون [ سورة الأنعام : 128 - 129 ] .

ولذة أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلو بغير الحق .

وهذه اللذات في الحقيقة إنما هي استدراج من الله لهم ليذيقهم بها أعظم الآلام ، ويحرمهم بها أكمل اللذات ، بمنزلة من قدم لغيره طعاما لذيذا مسموما ؛ يستدرجه به إلى هلاكه ، قال تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ سورة الأعراف : 182 - 183 ] .

قال بعض السلف في تفسيرها : كلما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة : حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ سورة الأنعام : 44 - 45 ] .

وقال تعالى لأصحاب هذه اللذة :

أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ سورة المؤمنون : 55 - 56 ] .

[ ص: 235 ] وقال في حقهم : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [ سورة التوبة : 55 ] .

وهذه اللذة تنقلب آخرا آلاما من أعظم الآلام ، كما قيل :




مآرب كانت في الحياة لأهلها عذابا فصارت في المعاد عذابا


النوع الثالث : لذة لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما ، ولا تمنع أصل لذة دار القرار ، وإن منعت كمالها ، وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة ، فهذه زمانها يسير ، ليس لتمتع النفس بها قدر ، ولا بد أن تشتغل عما هو خير وأنفع منها .

وهذا القسم هو الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته ، فإنهن من الحق .

فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حق ، وما لم يعن عليها فهو باطل .

الواقع والجائز والنافع والضار و



عنها إن النبي إذا رأي عائشة لم يتمالك نفسه عنها وذكر سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن أبيه قال كان إبراهيم خليل الله يزوره جبرائيل في كل يوم من الشام على البراق من شغفه به وقلة صبره عنه وذكر الخرائطي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما اشترى جارية رومية فكان يحبها حبا شديدا فوقعت ذات يوم عن بغلة له فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها ويقبلها وكانت تكثر من أن تقول له يا بطرون أنت قالون تعني يا مولاي أنت جيد ثم إنها هربت منه فوجد عليها وجدا شديدا فقال
قد كنت أحسبني قالون فانصرفت ... فاليوم أعلم إني غير قالون قال أبو محمد بن حزم وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين كثير وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين رأيت امرأة فعشقتها فقال ذلك ما لا يملك فالجواب وبالله التوفيق أن الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الواقع والجائز والنافع والضار ولا يستعجل عليه بالذم والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلقه وإلا فالعشق من حيث هو لا يحمد ولا يذم ونحن نذكر النافع من الحب والضار والجائز والحرام أعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلة القولب على محبته وفطرت الخليقة على تألهه وبها قامت الأرض والسموات وعليها فطر المخلوقات وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله فإن الآله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده والعبادة لا تصح الاله وحده والعبادة هى كمال الحب مع كمال الخضوع والذل والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله والله سبحانه يحب لذاته من سائر الوجوه وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة ودعوة جميع رسله أجمعين وفطرته التي فطر عليها عباده وما ركب فيها من العقول وما أسبغ عليهم من النعم فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها فكيف بمن كل الإحسان منه وما بخلقه جميعهم من نعمه وحده لا شريك له كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله الآية وما تعرف به الى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العليا وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته والمحبة له داعيين الجلال والجمال والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك فإنه جميل يحب الجمال بل الجمال كله له والإجمال كله منه فلا يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سواه قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية والولاية أصلها الحب فلا موالات إلا بحب

كتاب والسنة عل

http://saaid.net/tarbiah/index.htm

ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة من أهل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – ذكورا وإناثا ، وأوضح الله بأن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – في مرتبة علية ومنزلة رفيعة قال تعالى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }

- ففي هذه الآية فضيلة عظيمة ومنقبة رفيعة لجميع أزواجه عليه الصلاة والسلام .

- وأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مؤمن ما لهن من شرف صحبة النبي – صلى الله عليه وسلم - .

- قال القرطبي – رحمه الله - :" شرّف الله أزواج نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي : وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال ، وحجبهن – رضي الله عنهن – بخلاف الأمهات " ( التفسير 14/123 ) .

- قال ابن كثير – رحمه الله - :" وقوله وأزواجه أمهاتهم أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع " ( التفسير 5/425) .

- والذي دفعني للكلام عن أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن أجمعين – ما يلي :

- أولا ً : امتثالا لقول النبي ووصية النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم :" وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله. واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال "وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي". فقال له حصين: ومن أهل بيته؟ يا زيد! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: وهم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم " .

- ونساء النبي من آل بيته قال تعالى ] إنما يريد ليذهب عنكم [ .

- لذلك أقر المجلسي بأن السياق هو في شأن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال في بحار الأنوار 35/24 :" فلعل آية التطهير أيضا وضعوها في موضع زعموا أنها تناسبه أو أدخلوها في سياق مخاطبة الزوجات لبعض مصالحهم الدنيوية وقد ظهر من الأخبار عدم ارتباطهن بقصتهن فالاعتماد في هذا على النظم والترتيب ظاهر البطلان ولو سلم عدم التغيير في الترتيب فنقول سيأتي أخبار مستفيضة بأنه سقط في القرآن آيات كثيرة فلعله سقط مما قبل الآية وما بعدها آيات لو ثبتت لم يفت الربط الظاهري " .

- والأهل في اللغة تطلق على الزوجة قال تعالى { وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً } وبإجماع المفسرين أنه كان مع موسى زوجته .

- وقالت هاجر زوج إبراهيم { قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد }

- وقال النبي - :" أيها الناس من يعذرني في رجل قد بلغ أذاه في أهلي " .

- وكذلك جاء عن عائشة - رضي الله عنها أنها قالت :" ما شبع آل رسول الله e - من خبز بر " أخرجه الإمامان البخاري ومسلم وقول عائشة ما شبع آل رسول الله . تريد نفسها وأزواج النبي - .

- والسبب الثاني : قوله – صلى الله عليه وسلم - :" المرء مع من أحب " مسلم .

- والسبب الثالث :" كما قال الصديق - رضي الله عنه – ارقبوا محمداً في أهل بيته " رواه البخاري ، ولقول الصديق :" والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحب إلي من أن اصل قرابتي " البخاري .

- ومن مناقبهن :

- أنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة إيثاراً منهن لذلك على الدنيا وزينتها فأعد الله لهن على ذلك ثواباً جزيلاً وأجراً عظيما قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }

- ففي البخاري بإسناده إلى عائشة – رضي الله عنها – قالت :" لما أُمر رسول الله بتخيير أزواجه بدأ بي فقال :" إني ذاكر لك أمرا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك. قالت: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك، ثم قال: " إن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } قلت: أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة " ( البخاري 2336) .

- ومن مناقبهن العامة :

- أن الله تعالى أخبر عباده أن ثوابهن على الطاعة والعمل الصالح ضعف أجر غيرهن ، قال تعالى { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } .

- ففي هذه الآية أن التي تطيع الله ورسوله منهن وتعمل صالحاً فإن الله يعطيها ضعف ثواب غيرها من سائر نساء المسلمين ، وأعد الله لها في الآخرة عيشاً هنيئاً في الجنان .

- قال الحافظ ابن كثير :" { نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } أي : في الجنة فإنهن في منازل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أعاى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش " .

- ومن مناقبهن :

- ومن المناقب التي شرفهن بها رب العالمين وأخبر بها عباده في كتابه العزيز أنهن لسن كأحد من النساء في الفضل والشرف وعلو المنزلة قال تعالى { يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }

- فقد بين المولى جل وعلا في هذه الآية أنه لا يلحقهن من نساء الناس في الشرف والفضل ، كما بين أن هذا الفضل إنما يتم لهن بشرط التتقوى لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في حقهن

- ومن مناقبهن :

- أن الله أخبر أنه طهرهن من الرجس تطهيراً قال تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }

- والسؤال الذي يطرح نفسه هل قولنا أن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم - مجاملة من الله ؟ هل هذه محاباة من الله لرسوله ؟

- هل هن اللاتي فرضن هذه الأمومة على المؤمنين بسبب قربهن من رسول الله ؟

- والحق : أنهن لم يتطلعن يوما من الأيام للحصول على هذه الميزات بسبب ارتباطهن بالرسول الكريم بصلة الزواج .

- ولكن الله وحده هو الذي من عليهن بهذا الفضل وفرض هذه الأمومة وقررها على جميع المؤمنين قال تعالى { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } .

- وفي هذه الآية يتقرر شيئين :
- الأول : أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ولا يكمل إيمان العبد حتى يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه .

- الثاني : أن زوجات النبي – رضي الله عنهن – هن أمهات للمؤمنين .

- فهذه الأمومة التي يقررها القرآن لزوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – ويعممها على جميع المؤمنين ، تفرض على من شرفوا بهذه الأمومة واجبات والتزامات يجب أن تؤدى .

- ولكن قبل الخوض في بيان هذه الحقوق فإننا يجب أن نؤكد بأن هذا الفضل وذلك التكريم لهن – رضي الله عنهن – لم يكن ليستقر تاجاً فوق رؤسهن إلا بعد أن نجحن فيما اختبرن به من أوامر .

- وسنتكلم عن بعض الاختبارات ليتبين لنا بوضوح وجلاء أنهن – رضي الله عنهن – كن جديرات بهذا التكريم وأهلا لهذا الفضل .

- فأول هذه الاختبارات ما جاء في قوله تعالى { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيماً }

- وهذا الاختبار الصعب شكين إليه خشونة العيش وقلة حظهن من متاع الدنيا فماذا حدث ؟

- في البخاري (5107) :" عن عائشة رضي الله عنها قالت:
ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم، منذ قدم المدينة، من طعام البُرِّ ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض " .

- وفي البخاري عن أمنا عائشة – رضي الله عنها – قالت :" كان فراش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أَدَمٍ وحشوُه من ليف " .

- وفي البخاري قال قتادة كنا نأتي أنس بن مالك – رضي الله عنه - :" وخبّازه قائم فقال : كلوا فما أعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى رغيفا مرقّقاً حتى لحق بالله " .

- وفي البخاري عن عائشة – رضي الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير :" إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة وما أوقدت في أبيات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ناراً فقلت : ما كان عيشكم قالت : الأسودان التمر والماء " .

- لذلك لما دخلت حفصة – رضي الله عنها – على عمر عندما كان خليفة للمؤمنين ، فتراه في شدة العيش والزهد في الملبس والمطعم فتقول له :" إن الله أكثر من الخير ، وأوسع عليك من الرزق ، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك ، ولبست ثياباً ألين من ثوبك ؟ قال : سأخصمك إلى نفسك ، فذكر أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما كان يلقى من شدة العيش ، فلم يزل يذكرها ما كان فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما كان يلقى من شدة العيش ، فلم يزل يذكرها ما كان فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكانت معه حتى أبكاها " ( خبر صحيح أخرجه ابن المبارك في الزهد 201 ) .

- اعتزلهن النبي – صلى الله عليه وسلم – شهرا كاملا حتى تهامس المسلمون أنه طلق أزواجه ثم جاء الاختبار الصعب من الله عز وجل بين العيش مع رسول الله على هذه الحال وبين تطليقهن وتسريحهن .

- فما كان منهن – رضي الله عنهن – إلا أن اخترن العيش مع النبي – صلى الله عليه وسلم – مع خشونة العيش وقلة حظهن من متاع الدنيا ابتغاء ما عند الله وحب لله ولرسوله .

- ثم جاء الاختبار الثاني :

- وليس بأقل مما سبق ، وهو أنه إذا ارتكبت إحداهن ذنبا أو إثما فإن عقابها مضاعف ، وإن آمنّ واتقين الله ورسوله وخشعن لله تعالى وخضعن لرسوله فإن الله يؤتيهن أجرهن مضاعفاً .

- قال تعالى { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما } .

- فما كان منهن إلا التسليم والإقرار بذلك .

- ويأتي الاختبار الثالث :

- وفيه يبين الله لهن ، أنهن لسن كغيرهن من النساء ، ومن ثم فإن علاقتهن بالناس يجب أن يسودها الطهر والعفة ، وأن يتكلمن بكلام واضح معروف وليقصدن المعنى قصدا ، حتى لا يطمع فيهن من في قلبه مرض أو ضعيف الإيمان .

- قال تعالى { يا نساء النبي لستن كأحد منم النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا } .

- إنها تبعات ثقال ومسئوليات عظام يفرضها عليهن وجودهن في ذلك البيت النبوي الطاهر ، حتى يصبحن على مستوى ذلك البيت الطاهر ، بيت النبوة

- وبين الله سبحانه وتعالى الهدف من وراء هذه القيود التي فرضها عليهن { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } .

- إنه الطهر الكامل والعفة المطلقة والنقاء الذي لا بعده نقاء وإنها الخصال الحميدة التي لا تليق إلا بهذا البيت الكريم المبارك ، بيت النبوة ينهلن منه الطهر والعفة .

- ولكن ما يحز في النفس ويملأها حزنا ويعصر القلب أسى أن بعض المسلمين في هذا الزمان لا يعرفون من هن زوجات النبي – صلوات ربي وسلامه عليه – اللاتي فزن بهذا الشرف العظيم ، وأصبحن أمهاتا للمؤمنين

- فما أحرانا في عصر الفتن والعقوق عصر اشرأبت فيه أعناق المبتدعة ، أن نتعرف على سيرتهن وبعض خصائلهن ،خاصة وأنهن تربين في بيت النبوة ، وتخرجن من مدرستها ، وكن أشد التصاقا بقدوتنا وحبيبنا محمد – صلى الله عليه وسلم - .

- فهؤلاء السيدات عشن في بيت النبوة ، ينزعن جميعا لإلى حواء ، وقد جئن إلى بيت تلاقت في البشرية بالنبوة واتصلت الأرض بالسماء ، وتزوجن من بشر يتلقى الوحي من السماء ، ويبلغ رسالة ربه فلله در هذا البيت وبأبي وأمي ساكنيه .

- التعريف بهن :

- أولاً : خديجة بنت خويلد :
- هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد تجتمع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في قصي ، وهي أقرب نسائه إليه في النسب ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة .
- ولم يتزوج النبي امرأة قبلها ، وكل أولاده عليه الصلاة والسلام منها إلا إبراهيم – رضي الله عنه – فإنه من مارية – رضي الله عنها - .
- كانت وفاتها – رضي الله عنها – قبل الهجرة بثلاث سنين .

- روى الإمام البخاري بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - :" أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: (ما أنا بقارىء). قال:
(فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}). فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (زملوني زملوني). فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي). فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق "
- فهذا الحديث تضمن ذكر منقبة ظاهرة لأم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – وهي أنها كانت تقوي قلب النبي – صلى الله عليه وسلم – في بداية نزول الوحي وطمأنته عليه الصلاة والسلام مما كان يخشاه على نفسه وهونت عليه الأمر وأنه لاخوف عليه ولا حزن وأقسمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – على أن الله لا يخزيه ولا يخذله واستدلت على ما أقسمت عليه بما فيه من صفاته الطيبة من مكارم الأخلاق .

- ومن مناقبها – رضي الله عنها وأرضاها – التي انفردت بها دون سائر أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج عليها حتى فارقت الحياة فقد روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها قالت :" لم يتزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – على خديجة حتى ماتت " .

- ومن مناقبها العظيمة قوله – صلى الله عليه وسلم – كما في البخاري (3249) :" خير نسائها – أي في وقتها – مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة " .

- من مناقبها العظيمة التي دلت على شرفها وجلالة قدرها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يكثر من ذكرها بعد موتها بالثناء والمدح عن عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء قالت فغرت يوما فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا منها قال:
-ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء " .

- قال ابن العربي :" كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها فرعاها حية وميتة برها موجودة ومعدومة وأتى بعد موتها ما يعلم أنه يسرها لو كان في حياتها ومن هذا المعنى ما روى من أن من البر أن يصل الرجل ود أبيه " ( عارضة الأحوذي 14/252) .

- ومما حظيت به – رضي الله عنها – كان يرتاح لسماع صوت من يشبه صوته صوتها لما وضع الله لها في قلبه من المحبة – رضي الله عنها – فعن أم المؤمنين قالت :" استأذنت هالة بنت خويلد – أخت خديجة – على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال :" اللهم هالة " قالت : فغرت فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك الله خيراً منها " .( الصحيحين ) .

- ومن مناقبها أن الباري جل وعلا أرسل لها السلام مع جبريل وأمر نبيه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب الؤلؤ المجوف المنظوم بالدر والياقوت فقد روى البخاري في صحيحه :" أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب " .

- وفي هذا الحديث ذكر منقبتين عظيمتين لأم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – وأرضاها إرسال الرب – جل وعلا – سلامه عليها مع جبريل وهذا خاص لها لا يعرف لامرأة سواها .

- المفاضلة بين خديجة وعائشة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :" جهات جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة وكأنه رأى التوقف " ( ذكر عنه الحافظ ابن حجر في لبفتح 7/109) .

- قال ابن القيم :" واختلف في تفضيلها على عائشة – رضي الله عنها – على ثلاثة أقوال ثالثهما الوقف : وسألت شيخنا ابن تيمية فقال : اختصت كل واحدة منهما بخاصة ، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام ، وكانت تسلي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتثبته وتسكنه ، وتبذل دونه مالها ، فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في الله وفي رسوله ، وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها ، وعائشة – رضي الله عنها – تأثيرها في آخر الإسلام ، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة ، وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها " ( جلاء الأفهام ص 124 – بدائع الفوائد 3/162-163 )

- المفاضلة بين عائشة وفاطمة :
- وقال العلامة ابن القيم – رحمه الله - :" الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضيل صار وفاقاً ، فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله – عز وجل – فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح ، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة ، وإن أريد بالتفضيل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم ,أنفع للأمة وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها ، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها ، وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة نساء الأمة وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل ، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل ، ولم يوازن بينهما فيبخس الحق وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم " ( بدائع الفوائد 3/161-162 – فتح الباري 7/109 ) .

- ثانيا ً : سودة بنت زمعة – رضي الله عنها - :
- قال الذهبي :" هي أول من تزوج بها النبي – صلى الله عليه وسلم – بها النبي بعد خديجة ، وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر حتى دخل بعائشة ، وكانت سيدة جليلة نبيلة ... وهي التي وهبت يومها لعائشة رعاية لقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " ( سير أعلام النبلاء 2/266-267) .

- ومن حرصها على ابقاء في عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – أنها آثرت يومها لعائشة إيثاراً منها لرضاه عليه الصلاة والسلام وحباً في المقام معه لتكون من أزواجه في الدنيا والاخرة ، فكان النبي يقسم لنسائه ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة رضى رسول الله – رضي الله عنها - .

- ثالثاً : عائشة – رضي الله عنها وأرضاها - :
- هي عائشة بنت أبي بكر الصديق وأمها أم رومان بنت عامر الكنانية .
- كانت أحب أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه وهي المبرأة من فوق سبع سماوات الصديقة بنت الصديق .
- لم يتزوج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بكراً غيرها ولم ينزل الوحي عليه في لحاف امرأة سواها ، وبسببها شرع التيمم ونزل القرآن ببراءتها وطهرها عندما رميت بالإفك آيات تتلى حتى قيام الساعة .
- وكانت أعلم نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – بل هي أعلم النساء على الإطلاق .
- كان الأكابر من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يرجعون إلى قولها ويستفتونها .
- كانت وفاتها سنة ثمان وخمسين وصلى عليها أبو هريرة – رضي الله عنهم أجمعين - .

- من مناقبها :
- ما رواه البخاري أن عمرو بن العاص سأل النبي – صلى الله عليه وسلم - :" أي الناس أحب إليك قال عائشة قلت : من الرجال قال: أبوها " .
- وهذا الحديث فيه منقبة عظيمة لأم المؤمنين عائشة وهي أنها أحب الناس إلى قلبه ، قال الحافظ الذهبي :" وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيبا ... فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته ، فمن أبغض حبيبي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله ، وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً " ( سير أعلام النبلاء 2/142 ) .

- ومن مناقبها :
- أن جبريل أرسل إليها سلامه مع النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فقد روى البخاري عن عائشة قالت :" قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوما يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام ، فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى – تريد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " .

- ومن مناقبها : ما رواه الشيخان عن ابي موسى الأشعري قال :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثؤيد على سائر الطعام " .

- من مناقبها عدم قبول النبي – صلى الله عليه وسلم – الشكوى في حقها :
- في البخاري :" كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس: أن يهدوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها " .

- أخرج مسلم في صحيحه :" أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي. فأذن لها. فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. وأنا ساكتة. قالت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي بنية! ألست تحبين ما أحب؟" فقالت: بلى. قال "فأحبي هذه" قالت، فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت. وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء. فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقالت فاطمة: والله! لا أكلمه فيها أبدا. قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب. وأتقى لله. وأصدق حديثا. وأوصل للرحم. وأعظم صدقة. وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى. ما عدا سورة من حد كانت فيها. تسرع منها الفيئة. قالت، فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها. على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها. فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. قالت ثم وقعت بي. فاستطالت علي. وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه، هل يأذن لي فيها. قالت فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر. قالت فلما وقعت بها لم أنشبها حين أنحيت عليها. قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم "إنها ابنة أبي بكر " .

- والعدل الذي كن يسألن عنه هو التسوية بينهن في المحبة القلبية ، فقد كان – ومن خصائصها ومناقبها التي دلت على عظيم شأنها ورفعة مكانتها شهادة الباري جل وعلا لها بالبراءة مما رميت به من الإفك وبرأها مما رماها به أهل الإفك في عذرها وبراءتها وطهرها .

- قال ابن القيم :" أنزل في عذرها وبراءتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة وشهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم ، وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرا لها ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شراً لها ولا خافضاً من شأنها بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء فيالها منقبة ما أجلها وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشيء عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت :" ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى ولكن كنت أرجو أن يري الله رسول الله رؤيا يبرئني الله بها " .

- ومما كان لها تشريفا أنها كانت سببا في نزول آية التيمم ، ففي البخاري أن " عائشة – رضي الله عنها – استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير :جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل لك منه مخرجاً وجعل فيه للمسلمين بركة "

- ومن فضائلها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما لحق بالرفيق الأعلى كان في بيتها وبين سحرها ونحرها وكان مسنداً ظهره إلى صدرها وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا وأول ساعة من الآخرة ودفن في بيتها .

- فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت :" أن رسول الله لما كان في مرضه جعل يدور بين نسائه ويقول :" أين أنا غداً ؟ " - حرصاً على بيت عائشة واستبطاء ليوم عائشة – فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري " .

- رابعاً : حفصة بنت عمر – رضي الله عنهما - :
- ولدت – رضي الله عنها – قبل المبعث بخمس سنين وتوفيت سنة خمس وأربعين .
- البخاري 3783 :" أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا، توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها " .

- قال الذهبي – رحمه الله - :" وروي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تطليقه ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له بذلك وقال :" إنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة " ( سير أعلام النبلاء 2/228) .

- وفي ما ذكرناه دلالة على أنها كانت على قدر كبير وجانب عظيم من رفعة مكانتها وجلالة قدرها – رضي الله عنها وأرضاها - .

- خامساً : زينب بنت خزيمة – رضي الله عنها - :
- يقال لها أم المساكين لكثرة إطعامها المساكين وهي من بني عامر بن صعصعة وتوفيت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – حي .
- فيكفيها شرفاً وفخراً أنها احدى أمهات المؤمنين اللاتي ضرب عليهن الحجاب والللاتي هن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة .
- كانت وفاتها سنة أربع للهجرة – رضي الله عنها وأرضاها - .

- سادساً : أم سلمة – رضي الله عنها - :
- اسمها هند بنت أبي أميمة القرشية المخزومية .
- روى الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة قالت :" سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول :" ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها " قالت : فلما مات أبو سلمة قلت : أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم ، أرسل لي رسول – صلى الله عليه وسلم – حاطب بن أبي بلتعة يخطبني لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – " .

- من مناقبها أنها تشرفت برؤية جبريل حيث رأته عليه السلام في صورة دحية الكلبي ، فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي عثمان قال :" أنبئت أن جبريل أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – وعنده أم سلمة فجعل يتحدث فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –لأم سلمة من هذا ؟ أو كما قال قالت هذا دحية فلما قام قالت والله ما حسبته إلا إياه حتى خطبه النبي – صلى الله عليه وسلم – يخبر خبر جبريل "

- قال الإمام النووي :" وفيه منقبة لأم سلمة – رضي الله عنها – وفيه جواز رؤية البشر الملائكة " .

- قال العلامة ابن القيم :" ومن خصائصها : أن جبريل دخل على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي " .( جلاء الأفهام ص 136 ) .

- أكرمها الله بالصواب والسداد فيما تشير به ومن ذلك لما أشارت به على النبي – صلى الله عليه وسلم – عام الحديبية حينما أمر الصحابة أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم فتثاقلوا ذلك طمعاً منهم في أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت .

- فقد روى البخاري في صحيحه :" فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا). قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يانبي الله، أتحب ذلك، اخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيلحقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل غما" .

- فهذه الأدلة فيها أنها كانت عظيمة القدر والمكانة وهي آخر أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – موتاً وقيل ميمونة .

- سابعاً :زينب بنت جحش – رضي الله عنها - :
- هي زينب بنت جحش كانت من سادة النساء دينا وورعاً وجوداً ومعروفاً رضي الله عنها وكانت وفاتها سنة عشرين .
- من مناقبها أنها كانت تقول :" زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات " . ( البخاري ) .
- وذلك لقول الله تعالى { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }
- قال الإمام الذهبي :" فزوجها الله تعالى بنبيه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهد فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين وتقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق عرشه " ( سير أعلام النبلاء 2/211 ) .
- في الصحيحين أن نساءه سألنه :" أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: (أطولكن يدا). فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعد: أنما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقا به، وكانت تحب الصدقة " .
- لأن زينب كانت قصيرة فعلمن أن المقصود بطول اليد الصدقة وكانت – رضي الله عنها – كثيرة الصدقة .
- روى الإمام مسلم في صحيحه :" تقول عائشة عن زينب لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتتقرب به إلى الله ما عدا سورة من حدة بها " .
- قال الإمام الذهبي :" ويروى عن عمرة عن عائشة قالت : يرحم الله زينب لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف إن الله زوجها ونطق به القرآن وإن رسول الله قال لنا :" أسرعكن لحوقاً أطولكن باعاً " فبشرها بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة " ( السير 2/215 ) .

- ثامناً : جويرية بنت الحارث :
- هي جويرية بنت الحارث من بني المصطلق .
- وجاءت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وطلبت منه أن يعينها على مكاتبتها لنفسها عل ثابت بن قيس فعرض عليها النبي ما هو خير لها في العاجل والآجل وهو أن يؤدي عنها ما كاتبها لنفسها فوافقت على ذلك وأسلمت وتزوجها سيد الخلق وأطلق لها أسارى من قومها .
- توفيت – رضي الله عنها – سنة خمسين للهجرة .

- تاسعاً : أم حبيبة – رضي الله عنها - :
- هي رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها قال الذهبي – رحمه الله - :" وهي من بنات عم الرسول – صلى الله عليه وسلم – وليس في أزواجه من هي أقرب نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها ، عُقد له – صلى الله عليه وسلم – عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار وجهزها بأشياء " ( السير 2/219) .

- ومما زاد في قدرها وعلو شأنها أنها أكرمت فراش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم .

- كانت شديدة الخوف من الله – عز وجل – ومن العابدات الورعات فقد روى الحاكم عن عوف بن الحارث قال :" سمعت عائشة تقول دعتني أم حبيبة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم - عند موتها.
فقالت: قد كان بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله ذلك كله وتجاوز وحللتك من ذلك كله فقالت عائشة: سررتني سرّك الله وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك وتوفيت: سنة أربع وأربعين، في إمارة معاوية -رضي الله تعالى عنهما- " .

- العاشرة : صفية بنت حيي بن أخطب :
- كانت – رضي الله عنها – ذات حسب وجمال ودين وكانت وفاتها سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية – رضي الله عنها - .

- الحادية عشر : ميمونة بنت الحارث – رضي الله عنها - :
- تسميتها باسم " ميمونة : إنما سماها بهذا الاسم المبارك هو النبي – صلى الله عليه وسلم – كما أخرجه الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال :" كان اسم خالتي ميمونة برة فسماها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ميمونة " المستدرك 4/30 .

- حقوق أمهات المؤمنين :

- هؤلاء هن أمهات المؤمنين اللاتي يجب على كل مسلم الإقرار بفضلهن والاعتراف بعظم منزلتهن وأنهن أمهات المؤمنين كما أطلق الله ذلك عليهن وأن من طعن فيهن أو واحدة منهن كان بعيدا عن الله ورسوله وعباده المؤمنين .

- إن الإسلام الذي نؤمن به قد جعل لألأم منزلة عظيمة ، ومكانة سامية ، وحسبها شرفاً وفخراً أن يوصي الرسول – صلى الله عليه وسلم – أحد أصحابه وقد جاء يسأله :" من أحق الناس بحسن صحابتي قال : أمك قال ثم من ؟ قال : أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من ؟ قال أبوك " .

- وأمهات المؤمنين حقهن أكبر وأسمى من أمهات العصب والدم في المكانة ، وأعلى منزلة ، لذلك الأدب مع أمهات المؤمنين يكون كما يأتي :

- أولا ً : الترضي عليهن والصلاة عليهن :
- جاء الصحابة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح أنهم قالوا :" يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " .

- وعندما يفعل المرء ذلك فإنه علامة على تمام دينه ومن حسن أدبه ، ألم يطلب منا النبي أن نصلي عليهن كما نصلي عليه .

- ثانياً : معرفة فضلهن ومحبتهن :
- قال أبو بكر الباقلاني :" ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة – رضي الله عن الجميع - ونقر بفضل أهل البيت – بيت رسول الله – وأنهن أمهات المؤمنين ، ونبدع ونفسق ونضلل من طعن فيهن أو في واحدة منهن لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقاً للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك " ( الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص 68 ) .

- ثالثاً : الإقتداء بهن ودراسة سيرتهن :
- ومن حسن الأدب مع أمهات المؤمنين الإقتداء بهن في كل شيء .
- فمثلا لقد ضربت أمهات المؤمنين أروع الأمثلة في طاعة الزوجة لزوجها مهما كلفتها الطاعة من مشاق .
- فهذه خديجة رضي الله عنها تتقدم على زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – في نصرة الزوج وتصديق النبي من أول لحظة بعث فيها إلى الناس بشيراً ونذيراً ، وتقف بجانبه في أصعب اللحظات كما :" كلا أبشر. فوالله! لا يخزيك الله أبدا. والله! إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق " .
- وفي العلم الشرعي والتفقه في الدين
- وفي حسن العشرة والصبر على خشونة العيش نجد أنهن جميعا يضربن أروع الأمثلة في ذلك ، فهذه رملة بنت أبي سفيان – أم حبيبة – أم المؤمنين – رضي الله عنها – فقد كانت تحفظ من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يزيد على الألفي حديث .
- وكانت تفتي من يسألها من رجال ونساء في أدق المسائل ما يصعب على غيرها وماذاك إلا لقربها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال هشام بن عروة عن أبيه :" ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة " .
- فعلى كل طالب للعلم أن يجعل من سيرة أم المؤمنين نبراساً له وسراجا مضيئا له ، فإنها نعم الأم ونعم المثل ونعم القدوة .
- وفي مجال الاجتهاد في العبادة والزهد وكلهن – رضي الله عنهن – مثل لذلك ، إلا أن حفصة بنت عمر – رضي الله عنها – تسبقهن في ذلك .
- فهذا جبريل – عليه السلام – ينزل من السماء فيقول للرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد طلق النبي حفصة :" أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة " .
- وفي مجال التصدق على الفقراء والإحسان إليهن ، لا نستطيع أن ننكر على إحداهن – رضي الله عنهن أنها لم تتصدق على الفقراء وتحسن إليهن ، إلا أننا نجد زينب بنت جحش – رضي الله عنها – تتفوق على غيرها في هذا المجال ، وقد شهد لها الرسول بذلك .
- فقال :" أسرعكن لحاقاً بي أطولكم يدا " .
- فكانت أول من لحق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – لأنها كانت أول من توفي من نساء النبي ولحق به ، لقد كانت سخية كريمة خيرة ، تتصدق على الفقراء والمساكين .
- وفي اجتهادهن في إرضاء النبي – صلى الله عليه وسلم – والبعد عن كل شيء قد يُظن – مجرد الظن – أنه قد يسيء إلى شخص النبي – صلى الله عليه وسلم – فهذه رملة بنت أبي سفيان ن أم حبيبة – أم المؤمنين – يأتي إليها أبوها وهو مشرك قبل فتح مكة ، ويدخل عليها بيتها ويهم بالجلوس على فراش رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
- فتخطف فراش رسول الله قبل أن يصل إليه وتعلن له صراحة بأنه لا يمكن له أن يقترب من فراش رسول الله الطاهر حتى لا ينجسه ، أو حتى لا يسيء إلى رسول الله وهو ما يزال بعد مشركا .
- عندما ظنت – مجرد الظن – أنه يسيء إلى زوجها إذا غاب عنها في نفسها وماله فهكذا يجب على كل امرأة أن تبالغ في إرضاء زوجها كما فعلت أم حبيبة – رضي الله عنها - .

- ثالثاً : من الأدب معهن الذب عنهن والوقوف في وجه من يسيء إليهن :
- كان سلفنا الصالح منذ عهد الصحابة إلى عصرنا هذا ، لا يزال الصالحون يضعون أمهات المؤمنين في مكانة عالية ولا يسمحون لأي شائن مبغض أن يطعن فيهن .
- بل يرون ذلك من أفضل القربات والجهاد في سبيل الله في الذب عنهن وتوقيرهن واحترامهن وحسن الأدب معهن .

- رابعاً : من الأدب معهن التسمي بأسمائهن :
- ينبغي على المسلمين تسمية البنات بأسماء أمهات المؤمنين .
- وأن نذكر بناتنا ونجعلهن دائما باتصال دائم وحب مستمر مع أمهات المؤمنين .
- وأن يتخلقن بأخلاقهن وعدم التشبه بالساقطات العاهرات الراقصات كما هو شأن عامة المسلمين .